المقالات

إفريقيا والإسلام: مدخل إلى الممالك الإسلامية في القارة السمراء

الممالك الإسلامية الإفريقية: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي

سلسلة أسبوعية تسلط الضوء على الممالك الإسلامية في إفريقيا

مقدمة: إفريقيا والإسلام.. وحدة الجغرافيا والتاريخ

تُمثل القارة الإفريقية فضاءً حضاريًا وثقافيًا غنيًا ومتنوعًا، تلاقت فيه طرق التجارة، وامتزجت فيه الأعراق، وتحركت عبره موجات الهجرة والدعوة. وقد كان للإسلام في إفريقيا أثرٌ بالغ في تشكيل الهويّة الثقافية والسياسية للعديد من شعوبها، منذ القرن الأول الهجري، حيث مثّلت إفريقيا أول موطئ قدم للإسلام خارج الجزيرة العربية بالهجرة إلى الحبشة، وامتد أثره لاحقًا إلى أعماق القارة من خلال ممالك إسلامية أسهمت في نشر الدين، وخدمة اللغة العربية، وبناء نظم اجتماعية واقتصادية مستقرة.

وتُعد هذه المقالة مقدمة لسلسلة أسبوعية تُعنى بإبراز تاريخ الممالك الإسلامية في إفريقيا، من حيث النشأة، والإنجازات، والدور الحضاري، وعلاقاتها بالعالم الإسلامي، وواقعها المعاصر.

أولًا: إفريقيا في مدونات المؤرخين المسلمين

أولى الجغرافيون والمؤرخون المسلمون القارة الإفريقية اهتمامًا كبيرًا، خاصة بعد انتشار الإسلام فيها. فقد كتب عنها الإدريسي، والقلقشندي، وابن خلدون، وغيرهم، موثقين ممالك مثل غانا، ومالي، وسنغاي، وكنم، ودارفور، وسلطنة عدل، وأوفات، وتمبكتو. وقد وصفها القلقشندي بأنها: *«بلاد خصبة عامرة، فيها ممالك إسلامية غنية بالذهب والبشر والعلم»*¹.

وقد أشار ابن بطوطة في رحلاته إلى طبيعة المجتمعات الإفريقية المسلمة، وامتداحه لأخلاقهم واستقامتهم في إقامة الصلاة والعدل².

ثانيًا: الممالك الإسلامية في إفريقيا: من النشأة إلى الازدهار

1. الممالك المبكرة في الغرب الإفريقي:
​•​نشأت مملكة غانا الكبيرة على أيدي أبناء شعب السُّونِنْكى بقيادة بطلهم التاريخي كِنغْ دَنْفا سيسي وذلك حوالي (300هـ): لم تكن إسلامية عند نشأتها ثم ازدهر الوجود الإسلامي فى عاصمتها مدينة «كُمْبّى صالَح»، حتى أصبح أحد حيي العاصمة خالصا للمسلمين ويضم (12) مسجدا، ثم تحولت إلى أحدى أهم الممالك الإسلامية المعروفة في غرب إفريقيا. دخلها الإسلام عن طريق التجار، وسرعان ما أصبحت مركزًا اقتصاديًا وتجاريًا هامًا³.
•​مملكة التكرور: نشأت منتصف القرن الثامن الميلادي، فى أرجح الأقوال، وكانت قاعدة عاصمتها فى الوادى الأوسط لنهر السنغال وتضم ضفتي النهر، وكانت غنية وممكنة، وبلغ الوجود الإسلامي نهاية القرن العاشر الميلاد وبداية الحادى لوجود المرابطين فيها، ويرجع ذلك أساسا إلى اعتناق ملكها وار جابي بن رابيس الملقب بأبي الدرداء (ت: 1040م) الإسلام.
كان أول ملك فى المنطقة يعتنق الإسلام ويقرر تطبيق الشريعة الإسلامية فى مملكته، ومن مآثره أن ابنه لُبُّ بن وارْ جابي، قد شارك مع المرابطين فى معركة الزلاّقة التاريخية لفتح الأندلس على رأس كوكبة من المحاربين من أبناء منطقة حوض نهر السنغال، واشتهر التكرور فى المشرق بالإسلام وكان وجود طلابهم وحجاجهم فى مصر السبب وراء إنشاء حي ”بولاق الدكرور‘’ فى القاهرة.
​•​إمبراطورية مالي: برزت في القرن السابع الهجري وبالتحديد عام 1235م على يد مؤسسها الملك سُنْجّتَ كَيْتا، وبلغت ذروتها في عهد السلطان مانسا موسى (1312 – 1337) الذي اعتمد الإسلام دينا رسميا للدولة ومنهجا للحكم، وفى عام 1324م حج إلى مكة في موكب أسطوري، حاملاً أطنانًا من الذهب، وموثقًا الروابط بين إفريقيا والجزيرة العربية⁴.
​•​مملكة سنغاي: نشأت فى القرن 11 الميلادي على ضفاف نهر النيجر ثم خلفت مملكة مالي، بعد ما ضعفت، وامتد نفوذها لتشمل النيجر العليا، وتميزت برعاية العلم في مدينة تمبكتو، التي أصبحت منارة فكرية وعلمية⁵.

2. الممالك الإسلامية في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي
​•​سلطنة عدل وأوفات: قامت في القرن السابع الهجري بمنطقة القرن الإفريقي، وارتبطت بالعرب المهاجرين من اليمن والحجاز، وكانت على تماس مباشر مع الدولة الحبشية المسيحية، فكانت محورًا للصراع والنفوذ⁶.
​•​مملكة تمبكتو: عُرفت بمراكزها العلمية ومكتباتها الشهيرة، وقد كانت مقصدًا للعلماء من أنحاء العالم الإسلامي⁷.

3. ممالك الساحل والسودان الأوسط
​•​مملكة كَنم وبُرنو: نشأت شرق بحيرة تشاد، وأسلم ملوكها في القرن الخامس الهجري، وأسهمت في نشر الإسلام في أواسط إفريقيا⁸.
​•​سلطنة دارفور: أسلمت في القرن العاشر الهجري، وكانت مركزًا تجاريًا هامًا، ومفترق طرق بين مصر ووسط إفريقيا⁹.

ثالثًا: علاقة الممالك الإفريقية بالجزيرة العربية

لم تكن علاقة الممالك الإسلامية في إفريقيا بالجزيرة العربية علاقة تبعية أو استعمار، بل كانت علاقة دعوة، وتجارة، وثقافة. وقد دخل الإسلام إلى إفريقيا سلمًا عبر الطرق التجارية الساحلية والداخلية، مثل طريق القوافل العابرة للصحراء الكبرى، وطريق البحر الأحمر والمحيط الهندي.

وقد سافر طلبة العلم والعلماء من إفريقيا إلى الحرمين الشريفين، كما أُرسل علماء من مكة والمدينة لتعليم الناس في إفريقيا. ومن أبرز مظاهر العلاقة:
​•​تبني اللغة العربية لغة علمٍ وإدارةٍ، وظهور أدب عربي إفريقي متميز.
​•​تأثر الممالك بالنظام الإداري الإسلامي (الوزارات، القضاء، الحسبة).
​•​تدوين التاريخ الإفريقي بالحرف العربي فيما يُعرف بـ”العَجَمي”.
​•​انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية على نطاق ما ساعد فى إثراء الحياة الفكرية والعلمية.

رابعًا: الممالك الإسلامية في أعين المؤرخين الأفارقة والغربيين

أقوال المؤرخين الأفارقة:
​•​يقول المؤرخ السنغالي شيخ أنتا ديوب: *“إن الإسلام هو الذي أعاد إلى إفريقيا وحدتها الثقافية، وربطها بميراث حضاري مشترك”*¹⁰.
​•​ويؤكد البروفيسور علي مزروعي: *“أن الإسلام هو أحد أهم العوامل التي حافظت على تماسك المجتمعات الإفريقية في مواجهة الاستعمار الأوروبي”*¹¹.

أقوال المؤرخين العرب والغربيين:
​•​يرى المقريزي أن الممالك الإسلامية الإفريقية كانت *“مرايا ناصعة للدعوة الإسلامية في بيئة خصبة وشعوب نقية”*¹².
​•​أما المؤرخ الفرنسي رينيه باصي فقد كتب أن: *“الإسلام لم يدخل إفريقيا بقوة السلاح، بل بقوة الأخلاق والتجارة والعدالة”*¹³.
​•​ويقول ليون الإفريقي: *“لم أرَ في غرب إفريقيا أعظم من تمبكتو علمًا وديانةً ونظامًا”*¹⁴.

خاتمة: أهمية استحضار تاريخ هذه الممالك

إنّ دراسة الممالك الإسلامية في إفريقيا ليست مجرد استرجاع لتاريخ منسي، بل هي إعادة اكتشاف لعمق العلاقات الإسلامية الإفريقية، ولمكانة إفريقيا في تشكيل الحضارة الإسلامية. وهي أيضًا فرصة لتصحيح الصور النمطية التي رسمها الاستعمار الأوروبي عن “إفريقيا المظلمة”، بإبراز دورها الحضاري والديني والعلمي.

وسوف تتابع هذه السلسلة الأسبوعية، بإذن الله، تسليط الضوء على كل مملكة إسلامية إفريقية على حدة، نعرض فيها لسيرتها، وسياقاتها السياسية، وآثارها الباقية، وإسهاماتها في الثقافة الإسلامية.

الحواشي والمراجع:
​1.​القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج4، ص225.
​2.​ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار، ص211.
​3.​J. Fage, A History of Africa, Routledge, 2013.
​4.​اليعقوبي، البلدان، ص321.
​5.​Nehemia Levtzion, Ancient Ghana and Mali, Methuen, 1973.
​6.​أبو الحسن علي بن سعيد المغربي، المرج البحرين في تاريخ القرن الإفريقي، ص88.
​7.​John Hunwick, Timbuktu and the Songhay Empire, Brill, 2003.
​8.​يوسف فضل، تاريخ السودان من قبل الميلاد إلى العصر الحديث، ص215.
​9.​M. Last, The Sokoto Caliphate, Longman, 1967.
​10.​Cheikh Anta Diop, Precolonial Black Africa, Lawrence Hill Books, 1987.
​11.​Ali Mazrui, The Africans: A Triple Heritage, BBC Books, 1986.
​12.​المقريزي، المواعظ والاعتبار، ج3، ص143.
​13.​René Basset, Études sur l’Islam en Afrique, Paris, 1922.
​14.​Leo Africanus, Description of Africa, Penguin, 1982.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى