القصواء ورفعة الذكر النبوي: من صحراء الهجرة إلى مهرجان برادفورد
تمهيد: رفعة الذكر وخلود الأثر
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، فكان الذكر النبوي رفعة في الأرض والسماء، وتكريمًا خالدًا يشمل النبي ﷺ وكل ما اتصل به. ومن شواهد هذه الرفعة أن تصبح ناقته القصواء، بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا، موضوعًا لكتاب علمي يُحتفى به في مهرجان دولي بمدينة برادفورد البريطانية، وعلى بُعد آلاف الأميال من صحراء الجزيرة التي شهدت الهجرة النبوية.
في لحظة من لحظات التواصل الحضاري بين الشرق والغرب، جاء تدشين كتاب “القصواء: ناقة النبي ﷺ” للمفكر والأكاديمي السعودي الدكتور عبد الله القاضي، ضمن فعاليات مهرجان برادفورد الثقافي، ليؤكد أن السيرة النبوية ما زالت حيّةً نابضة، تستوقف العقول والقلوب، وتُستحضر بوصفها ميراثًا إنسانيًّا عالميًّا.
أولًا: القصواء.. ناقَة ورسالة
ليست القصواء ناقةً عابرةً في سطور السيرة، بل هي رمزٌ نبويٌّ خالد، شهد مراحل مفصلية في بناء الدعوة والدولة. وقد ورد ذكرها في الصحيحين:
• قول النبي ﷺ: “دعوها فإنها مأمورة” حين اختارت موضع بناء المسجد النبوي (البخاري، 428).
• وركوبه لها في حجة الوداع (مسلم، 1218).
• واستعمالها في رحلة الهجرة، وخطبة الجمعة الأولى، وصلح الحديبية.
وقد استعرض الدكتور القاضي، خلال محاضرته المصاحبة للتدشين، المسيرة الرمزية للقصواء منذ ولادتها في موضع ارتبط بالأسطورة والحب، إلى أن اختصّها الله بمرافقة خير خلقه في أنبل اللحظات، فصارت “سفيرة النبوة” و”مركب الوحي”.
ثانيًا: من سوق عكاظ إلى قباء والمدينة
عرض الدكتور القاضي كيف انتقلت القصواء من سوق عكاظ، حيث اشتراها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، إلى أن أهداها لرسول الله ﷺ، فصارت رفيقة الطريق في هجرته المباركة.
لقد شهدت القصواء بناء أول مجتمع إسلامي، ووقائع التأسيس النبوي، وخطبة عرفة، ونزول الوحي، فكانت دابةً تسير في الأرض، ولكنها خُصَّت بكرامة السماء، واحتفظت بمكانتها في وعي الأمة وتاريخها.
ثالثًا: القصواء في برادفورد.. حين تُصير السيرة جسراً للحوار
مهرجان برادفورد الثقافي يُعد من أبرز المنصات الثقافية في المملكة المتحدة، ويُعنى بتقوية جسور الحوار بين الثقافات والأديان. وفي هذا السياق، جاء تدشين كتاب القصواء ليكون شاهدًا على حضور السيرة النبوية في فضاء حضاري عالمي.
إن تخصيص ناقة النبي ﷺ بهذا الاحتفاء لم يكن أمرًا عابرًا، بل هو امتداد لمعاني رفعة الذكر النبوي، وامتداد حضاري لقيم السيرة في بعدها الإنساني والرمزي. وقد حضر التدشين جمع غفير من مختلف الجنسيات، يتقدّمهم:
• الشيخ الأستاذ الدكتور قيس آل الشيخ مبارك، عضو هيئة كبار العلماء سابقًا.
• المهندس أنس صيرفي وأسرته الكريمة، أحد الداعمين لهذا المشروع الثقافي المتميز.
• بالإضافة إلى قيادات دينية وبرلمانية وشخصيات عامة، تجمّعوا ليعبّروا عن تقدير عالمي لهذا الجانب المضيء من سيرة خاتم المرسلين.
رابعًا: د. عبد الله القاضي.. الجغرافيا في خدمة السيرة
يُعد الدكتور عبد الله القاضي من أبرز الباحثين في الجغرافيا النبوية، وقدّم أعمالًا علمية رائدة تُعيد قراءة السيرة من منظور مكاني وتوثيقي، ومن أبرز مؤلفاته:
• أطلس الهجرة النبوية – دار العبيكان.
• خطى الرسول – دار المعالم.
• المواقع الجغرافية للسيرة النبوية.
ويمتاز بأسلوب يجمع بين الدقة الأكاديمية والتأمل الروحي، فيجعل من كل معلم نبوي رسالة، ومن كل طريق مسارًا للفهم والتذوق، حتى تتحول السيرة إلى خريطةٍ قلبيةٍ ومعرفيةٍ.
خاتمة: القصواء.. سفيرة الذكر وركب الهداية
إن تدشين كتاب “القصواء” ليس مجرد فعل ثقافي، بل هو استعادة لروحٍ منسيةٍ في السيرة، روح الرفق والرمزية والتكامل بين الإنسان والكون. فالقصواء التي رافقت سيد الخلق ﷺ، إنما رافقت الرسالة في حركتها، والوحي في مسيرته، والنبوة في تجلياتها.
وقد أحسن الدكتور عبد الله القاضي إذ أحيا هذا المعنى، وجعل من قصة ناقة، قصة أمة، ومن خط سيرها، خط سيرة، ومن آثارها، آية في رفعة الذكر كما شاء الله سبحانه: {ورفعنا لك ذكرك}.
⸻
المصادر والمراجع
1. صحيح البخاري، كتاب المغازي، حديث رقم: 428.
2. صحيح مسلم، كتاب الحج، حديث رقم: 1218، 1322.
3. عبد الله القاضي، أطلس الهجرة النبوية، دار العبيكان، 2010م.
4. عبد الله القاضي، خطى الرسول، دار المعالم، 2009م.
5. الموقع الرسمي لمهرجان برادفورد الثقافي.
• رئيس اللجنة الشرعية في المجلس الأوروبي للهيئات والمراكز والقيادات الإسلامية
