المقالات

مملكة تقلى الإسلامية: معقل العلم والدعوة في جبال السودان

سلسلة: الممالك الإسلامية في إفريقيا – الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي

المقدمة: الممالك الإسلامية في إفريقيا وسياق النشأة

مثّلت الممالك الإسلامية في القارة الإفريقية أحد أبهى تجليات التفاعل الحضاري بين الإسلام وبيئات القارة الغنية بتنوعها العرقي والجغرافي والثقافي. وقد شهدت مناطق غرب وشرق ووسط إفريقيا قيام ممالك ودول إسلامية كان لها دور كبير في نشر الدعوة، وترسيخ العدالة، وتعزيز منظومات التعليم الشرعي والعرفي. ومن بين هذه الممالك، تتجلى مملكة تقلى الإسلامية بوصفها معقلاً للعلم والدعوة في جبال السودان، حيث جمعت بين القوة السياسية والحيوية الثقافية، وكانت تمثل نموذجًا مميزًا لتلاقح الإسلام مع ثقافة الجبال السودانية.

النشأة وأسباب التأسيس

ظهرت مملكة تقلى الإسلامية في القرن الثامن عشر الميلادي (نحو 1753م) في منطقة جبال النوبة بجنوب كردفان في السودان. وكان تأسيسها استجابةً لتحديات دينية وسياسية تمثلت في مقاومة انتشار الوثنية من جهة، وفرض النفوذ الثقافي والديني الإسلامي من جهة أخرى، خاصةً بعد التراجع النسبي لنفوذ سلطنة سنار.

المؤسس الأوائل: من هم؟

يُعد الشيخ عدلان بن نمر هو المؤسس الفعلي لمملكة تقلى، وهو من نسل عربي مسلم ينتمي إلى قبيلة الجبال “النُمُور”. ويُذكر أنه كان فقيهًا، حافظًا للقرآن، متأثرًا بتقاليد الطرق الصوفية، وأنه أسس المملكة على قاعدة دينية صلبة، جعلت الإسلام ركيزة النظام السياسي والاجتماعي.

أهم القادة والحكام في مملكة تقلى

من أبرز القادة في مملكة تقلى:
• الشيخ نمر بن عدلان: الذي وطد الحكم ووسّع نفوذ المملكة.
• الشيخ آدم دبالو: الذي قاد إصلاحات علمية ودينية، وكان له أثر كبير في إنشاء مراكز التعليم والدعوة.
• السلطان حامد بن نمر: الذي واجه التدخلات العثمانية والمهدية بشجاعة، رغم التحديات العسكرية.

الحدود الجغرافية للمملكة

امتدت مملكة تقلى على مساحة واسعة من جبال النوبة الجنوبية، وخاصة في المناطق الواقعة اليوم داخل ولاية جنوب كردفان، وشملت مناطق مثل العباسية تقلى وكالوقي، وحدودها الطبيعية كانت تتمثل في سلاسل الجبال والأودية، ما وفر لها حصانة طبيعية ضد الغزوات.

أهم إنجازات مملكة تقلى الإسلامية
• إنشاء شبكة من الخلاوي (مدارس قرآنية) لتعليم الصغار وتحفيظ القرآن.
• انتشار الطرق الصوفية، خاصة الطريقة القادرية والشاذلية.
• ترسيخ الشورى في الحكم، واحتفاظ المملكة باستقلالها الديني والإداري عن القوى المجاورة.
• إنشاء نظام عدلي محلي يستند إلى الفقه المالكي والعرف الإسلامي.
• تحالفات ذكية مع قبائل الجبال والسهول لضمان الاستقرار.

سقوط المملكة وأسبابه

سقطت مملكة تقلى فعليًا في أواخر القرن التاسع عشر، مع تصاعد حملات الدولة المهدية (1881–1898م) بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي. ورفض حكام تقلى مبايعة المهدي، مما أدّى إلى هجوم المهدية عليها وإسقاطها، بعد مقاومة شرسة. وكان من أسباب السقوط:
• العزلة الجغرافية النسبية.
• التحول الجذري في خارطة القوى الإسلامية بالسودان.
• الصراع بين الولاء الديني التقليدي والزعامة المهدوية الجديدة.

الذاكرة الإسلامية والإفريقية: تقلى في الوعي الجمعي

لا تزال مملكة تقلى حاضرة في الذاكرة الشعبية والنخبوية في السودان، خاصة في روايات أهل العباسية تقلى، وتقاليد علماء السودان الجنوبي. وتُذكر تقلى كرمز للتدين الصادق، وكمركز لعلماء القرآن وحملة الدعوة في الجبال.

تقلى في كتابات المؤرخين الأفارقة

يرى بعض المؤرخين الأفارقة، مثل عبد الله الطيب وعبد الله علي إبراهيم، أن مملكة تقلى تمثل نموذجًا لحكم إسلامي مستقل في بيئة جبلية معقدة، وأنها أسهمت في الحفاظ على الهوية الإسلامية في وجه الهيمنة الأجنبية. ويؤكد هؤلاء أن تقلى لم تكن مجرد مملكة سياسية، بل مدرسة ثقافية وروحية.

تقلى في كتابات المستشرقين: رؤية وتحليل

تناول المستشرقون مملكة تقلى في سياق أوسع عن الإسلام في السودان. وقد أشار إليها بعضهم مثل سبولدنغ وهولت باعتبارها “نموذجًا للمقاومة الثقافية”، وإن كانت رؤيتهم يغلب عليها الطابع الوصفي، دون تعمق في البنية الاجتماعية والدينية.

تقلى في الوثائق والروايات

وردت إشارات عديدة إلى مملكة تقلى في سجلات الرحالة الأوروبيين، مثل فاتي ولين، وفي أرشيف المهدية، وبعض المخطوطات السودانية مثل “طبقات ود ضيف الله”، وإن بشكل غير مفصل. وتشكل الروايات الشفوية مصدرًا هامًا في استعادة التاريخ المحلّي.

آثار تقلى في الحاضر

ما تزال هناك معالم أثرية باقية في منطقة العباسية تقلى، مثل المساجد القديمة، والخلاوي التقليدية، وبعض الوثائق والمصاحف الخطية. كما أن بعض الأسر ما زالت تحتفظ بسلالات العلم والإمامة المتوارثة من قادة المملكة.

موقف مراكز البحوث والدراسات الغربية

رغم قلة الاهتمام الغربي بمملكة تقلى مقارنة بممالك مثل سنغاي ومالي، إلا أن بعض الدراسات الحديثة في جامعات إفريقيا والشرق الأوسط بدأت تُعيد الاعتبار لتقلى، خاصة في ضوء الاهتمام بتاريخ الإسلام الشعبي في الجبال السودانية، ومن أبرزها أبحاث منشورة في جامعة الخرطوم، وجامعة بيرجن (Bergen) النرويجية.

الخاتمة

تمثل مملكة تقلى الإسلامية نموذجًا فريدًا من نماذج الحكم الإسلامي المحلي في إفريقيا، إذ جمعت بين الشريعة والعرف، وبين العلم والدعوة، وبين الجبال والسفوح. وإن استعادة تاريخ هذه المملكة هو استعادة لجزء من الذاكرة الإسلامية الإفريقية، ودعوة لقراءة تاريخ الشعوب من داخلها لا من خلال عدسة المستعمر أو المستشرق فقط.

حواشٍ ومراجع علمية
1. عبد الله الطيب، التراث الشعبي في السودان، دار جامعة الخرطوم.
2. محمد سعيد القشاط، الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء، المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة.
3. سبولدنغ، ر.ك.، Islamic Kingdoms of the Sudan, London: Oxford Press.
4. هولت، ب.، A Modern History of the Sudan, Longman.
5. Oral accounts from elders of Abbasiya Tegali – Sudan.
6. وثائق المهدية، محفوظات جامعة الخرطوم.
7. مركز أبحاث التاريخ الإفريقي، جامعة بيرجن.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى