المقالاتمنتدى القصة

وقفات مع المجموعة القصصية “خدش الأرواح” للكاتبة: رفعة محمد

في زمن تتزاحم فيه الأصوات وتتسابق الحكايات، تطل علينا مجموعة “خدش الأرواح” كجوهرة سردية نادرة، لا تكتفي بأن تروي بل تُلامس، لا تكتفي بأن تحكي بل تُشفِي وتُدين وتحتضن. هي نصوص تكتب الألم بمداد التجربة، وتنسج العذوبة من نسيج الخدوش الإنسانية.
وكأن كاتبتها، وهي تُحْيي هذه الأرواح المكسورة، تنحاز للواقع لا لتهرب منه، بل لتفتحه على احتمالات الضوء والدهشة. نصوص تتنفس ببطء، وتدعوك لتقرأ لا بعينيك فحسب، بل بأنفاسك كلها.

المجموعة هي الإصدار الأول، للكاتبة الأستاذة رفعة محمد، وعنوانها لافت وذو طابع شعوري مميز “خدش الأرواح”. ، والمجموعة صادرة عن دار تكوين للنشر والتوزيع، عام 2024، وتضم في داخلها ست قصص طويلة نسبيًا، هي:
1. عصا جدي عبد الحميد
2. وردي وأخضر
3. زواج في زمن الكورونا
4. مكلومة في سوق الخضرة
5. ابنة المدينة
6. وسواس اختياري
تمثل هذه المجموعة تجربة سردية ذات طبيعة وجدانية عميقة، تعبر خلالها الكاتبة أروقة الحياة اليومية بأدق تفاصيلها، وتلتقط لحظات التحول والخذلان والانكسار بعين دقيقة وحنونة.
المميز في هذه المجموعة، أن القصص لا تُساق بوصفها حكايات ذات “حبكة تقليدية”، بل بوصفها مشاهد مشبعة بالشعور، تُقرأ على مهل، وتُنصت فيها للغة أكثر مما تلاحق الحدث.
وقد جاءت مقدمة المجموعة بتوقيع الناقد القاص الأستاذ عبد الرحمن الدرعان، الذي احتفى بالنصوص بأسلوب أدبي تأملي عميق، وكتب فيها:
“كأنما هي خطة مدبّرة لترويض النص المكتوب ليستعيد صورته الأولى في الحكاية… تغرق في الكشف والإيضاح إلى حد يمكن أن يخدع القارئ بأنه يتلقى نصًا يبدو فيه القالب السردي وعاءً للواقع وصورة عنه.”
وفي موضع آخر يقول الدرعان عن المجموعة:
“الاشتباك معها يشبه التزلج على الماء، وتبدو لشدة سلاستها كالمرويات الشفاهية، حتى تكاد تسمع صوتًا مكتوبًا، كأنما هي خطة مدبّرة لترويض النص المكتوب ليستعيد صورته الأولى في الحكاية.”
بهذا النفس الحكائي الشفّاف، تتجلى القصص كصور ضوئية التقطتها عينٌ مُرهفة، تُبصر التفاصيل الصغيرة التي يصعب الإمساك بها، وتلتمع بين السطور كالنقاط البيضاء على لوحٍ داكن.

لنتوقف قليلا عند جماليات من هذه المجموعة:
1. اللغة والأسلوب
اللغة في هذه المجموعة رشيقة، سلسة، وتتمتع بعذوبة خاصة، فهي قريبة من اللغة الشفهية دون أن تفرّط في جمال الفصحى. وهناك قدرة واضحة لدى الكاتبة على الإمساك بالتفاصيل الدقيقة من الحياة اليومية، وتحويلها إلى لحظات شعورية نابضة بالحياة.
2. الأسلوب السردي
الكاتبة تعتمد على السرد التقريري الذي يَميل إلى الواقعية، مع لمحات شعرية مؤثرة. بعض القصص تشبه المونولوج الداخلي، حيث تمتزج المشاعر بالتفاصيل دون انفصال واضح بين الداخل والخارج.
3. الشخصيات
شخصيات المجموعة واقعية جدًا، نابضة بالحياة، تعاني، تُحب، وتُخفق. هناك تركيز خاص على الشخصيات النسائية، مما يكشف عن حساسية عالية تجاه قضايا المرأة والأسرة والطبقات الاجتماعية البسيطة.
4. الموضوعات
تناولت القصص موضوعات إنسانية وعائلية واجتماعية بعمق وبساطة في آنٍ معًا، من الطفولة والحرمان، إلى السلطة الأبوية، والعلاقة بالجد والجدة، وحتى الحب في ظل القيود الاجتماعية.
5. البنية السردية
القصص طويلة نسبيًا، تميل في بعض الأجزاء إلى السرد الروائي، مما يجعلنا نلمس “نَفَسًا روائيًا” لدى الكاتبة، كما أشار مقدم المجموعة. وهناك حضور قوي للتفاصيل الحياتية على حساب التكثيف، وهو أمر قد يُعَدُّ نقطة قوة في بعض المواضع، وفي أخرى قد يطيل القصة أكثر من اللازم.
6. المقدمة
المقدمة النقدية التي كتبها عبد الرحمن الدرعان كانت ذكية، عميقة، وقدّمت قراءة تحليلية للمجموعة تُسهم في تهيئة القارئ بشكل نقدي واحتفالي في آنٍ واحد، دون أن تفسد عليه متعة الاكتشاف.
باختصار:
“خدش الأرواح” عمل غني، إنساني، ومشبع بالجماليات الهادئة. يُظهر موهبة سردية ناضجة تميل نحو التأمل والتوثيق الشعوري أكثر من الحبكة المتوترة. وهي تجربة أولى تبشّر بإمكانيات روائية واعدة.
وأجد من المناسب تذييل هذه المقالة بتحليل واحدة من أبرز قصص المجموعة وهي أولى قصصها؛ (عصا جدي عبد الحميد).
العنوان ودلالته
“عصا جدي عبد الحميد” عنوان مُحمَّل بالرمزية. العصا ليست مجرد أداة مساعدة، بل تمثل السلطة والهيبة والرجولة في السياق الثقافي، خصوصًا في البيئة القروية. العصا هنا ليست ملكًا للجد فحسب، بل تصبح رمزًا متنازعًا عليه بين جيلين: الأب والجد.
تحليل البنية السردية
1. الراوي والزاوية السردية
الراوي طفل يروي القصة بلسانه، ويُقدّمها من وجهة نظر داخلية. هذا الاختيار السردي منح النص شحنة شعورية مؤثرة، حيث يرى القارئ العالم بعيون طفلٍ صغير، يكتشف التوترات الأسرية والسيطرة الأبوية والعلاقات المتشابكة دون أن يُدركها تمامًا، وهو ما يضفي على القصة براءة مؤلمة.
2. الزمن
القصة تتحرك في خط زمني واضح يبدأ من لحظة تلقي الأب اتصالًا بضرورة زيارة القرية، ويمتد حتى عودة الأسرة منها. لكنها أيضًا تنفتح على أزمنة كامنة: الماضي الشخصي للأب، وزمن الطفولة القاسية للأم، والتاريخ الطويل للعلاقة مع الجد.
3. الحبكة
القصة لا تعتمد على حدث رئيسي بل على تراكم التفاصيل الصغيرة: حضور جدٍّ متسلّط، أب خاضع، وأم صامتة، وطفل يراقب ويتشكل وعيه ببطء. لحظة إهداء العصا تكشف التوتر المركزي في النص: الأب يسعى للاعتراف من والده من خلال الهدية، والجد يرفضه ضمنيًا.
تحليل الشخصيات
الجد
يمثل السلطة الذكورية القاسية والقديمة. لا يظهر إلا ليُكرّس سلطته، حتى اللحظة التي يُهين فيها ابنه أمام الآخرين. وهو رمز لهيمنة لا تتزحزح حتى مع الكِبر أو المرض، بل تزداد قسوةً.
الأب
شخصية مأزومة، مزدوجة الهوية: قوي وصارم في المدينة، لكنه ينكسر ويُذل في حضرة والده. يتحول من رمز الرجولة في عيني طفله إلى “رجل مهزوم”، يتلقى الصفعات النفسية دون مقاومة. إنحناء الأب هو لحظة تهشُّم الصورة البطولية التي يحملها الطفل عنه.
الأم
هادئة، صامتة، تتبع وتساند. تمثل نموذج المرأة التقليدية، لكنها في العمق تمارس دورًا حاميًا عبر إشارات صغيرة، كدغدغة الأطفال للتغطية على قسوة الأب، أو ضم الطفل بعد العقاب.
الطفل الراوي
عينٌ بريئة تُراقب، لكنه لا يبقى بريئًا تمامًا. هو يتعرض لأول شرخ حقيقي في صورته عن الأب والجد، ويبدأ بتكوين موقف مبكر من السلطة والرجولة. لحظة الصفعة والرحلة مع الجد إلى الدكان تشكل تحولات في وعيه الطفولي.
الموضوعات الأساسية في القصة
السلطة والتسلط
يتضح هذا من خلال سيطرة الجد على الجميع، وكأن وجوده يغيب مفهوم “الأسرة”، ليحل محله نظام قائم على الطاعة والصمت. الأب نفسه خاضع رغم أنه رجل بالغ وله أسرته.
الانكسار والهيبة الزائفة
الفرق بين الأب في المدينة والقرية مرعب بالنسبة للطفل. هذه الانتقالة تُمثّل انهيارًا في صورة الرجولة في ذهنه. العصا – رمز القوة – لا تنجح في استعادة الكرامة، بل تبدو كرشوة باهتة.
تشوّه الطفولة
الطفل الراوي يتعرّض لما يشبه “تشوهًا نفسيًا” من خلال ما يراه ويشعر به. الحب الذي عرفه في المدينة لم يعد كافيًا ليحميه من قسوة الجد وانهزام الأب.
الهدايا ومفعولها السلبي
العصا هنا تتحول من أداة لإسعاد الجد إلى وسيلة لتعريته وتعري علاقته بابنه. الجدة والنساء في القصة كن أكثر حرارةً في الاستقبال، بينما الجد ظل عصيًا على التودد، وكأن كل هذا الجهد بلا طائل.
الأسلوب الأدبي
• الوصف التفصيلي الدقيق: مثل وصف العصا، أو ملامح الجد، أو مشهد صفعة الأذن، مشحونٌ بالعاطفة.
• المجازات الهادئة: تستخدم الكاتبة مجازات ناعمة مثل “العصا كأنها سيف ساموراي”، أو “صوت الدكان المختنق”، لتعميق الإحساس بالمكان والحدث.
الإيحاء أكثر من التصريح: لا تقول الكاتبة إن الطفل كره جده أو خافه، لكنها ترسم لك هذا الخوف في كل حركة وسكنة.
__
لنتوقف عند مقطعين من قصة “عصا جدي عبد الحميد”، يحملان دلالة أدبية ونفسية عالية، ونحاول سبر عمقي هذين المقطعين بأسلوب نقدي انطباعي يُبرز ما فيهما من جماليات خفية، وأعماق شعورية:
المقطع الأول:
“قام أبي إلى الدولاب ونحن مازلنا نعلق عيوننا في وجهه، ولما انتصبت قامته شعرت بضخامته وطوله، فابتعدت تقاسيم وجهه وكأنه صعد للسماء.”
التحليل:
هذا المقطع من أجمل الأمثلة على الكتابة من منظور الطفل. نظرة الابن إلى أبيه هنا تختزل حالة التعظيم والانبهار التي يحملها الطفل لوالده؛ ذلك التقديس الطفولي الذي يجعل من الأب كائنًا شبه سماوي، طويل القامة إلى حد الغياب، وعظيمًا لدرجة أن ملامحه تختفي حين يقف شامخًا.
الاستعارة البصرية في عبارة “كأنه صعد للسماء” لا تصف مجرد ارتفاع جسدي، بل تعبّر عن موقع الأب في فلك الطفولة الشعوري. هذا الأب هو “السماء”، وهو أيضًا بعيد المنال، رمزيًا وجسديًا.
لكن المدهش أن هذه الصورة تُبنى تمهيدًا لتقويضها لاحقًا حين تنكسر هيبة الأب في نظر الطفل أثناء الرحلة، خاصة أمام سلطة الجد. وهذا ما يجعل الصورة مأساوية عند إعادة تأملها؛ فما يُبنى هنا سيُهدَم هناك.
المقطع الثاني:
“سحبت يدها سريعًا عندما عاد أبي، وانطلقت السيارة.”
التحليل:
جملة قصيرة جدًا، لكنها محمّلة بدفقة شعورية هائلة. يد الأم في القصة هي رمز دائم للحنان والحماية، وهي الجسر العاطفي الوحيد بين الطفل والأمان وسط عالمٍ قاسٍ ومربك. في هذا المشهد، تضع الأم يدها الحانية على أذن الطفل الملتهبة بعد صفعة الأب، فـ”استكانت في قلبي” – تعبير خرافي يختصر فعلًا شعوريًا معقدًا في صورة حسية شديدة النقاء.
لكن الجملة التي اخترناها – “سحبت يدها سريعًا عندما عاد أبي” – تكشف المأساة الصامتة: حتى يد الأم التي تواسي، لا تستطيع البقاء حين يطل ظل السلطة الأبويّة. إذًا، ليس فقط الطفل من يخاف الأب، بل الأم أيضًا! وهذا يُفصح ضمنيًا عن طبيعة العلاقة الزوجية، والبيئة التي تقوم على الكتمان والخضوع لا الشراكة.
الجملة، رغم بساطتها، ترسم عالمًا مهددًا لا يتسع للمسات حانية، ولا يحتمل حضور العاطفة في حضرة الهيبة الذكورية.
خلاصة التحليلين:
• في كلتا الحالتين، تستخدم الكاتبة أسلوب الوميض العاطفي: لقطات قصيرة مكثفة، لكنها تنفتح على شعور طويل الأمد. وهي تملك مهارة نادرة في تصوير المشاعر لا من خلال التصريح، بل من خلال الانزياح الشعوري واللقطة الإنسانية البسيطة.
• الخاتمة وتأثيرها
الخاتمة تُعد من أقوى لحظات القصة، حيث يعترف الطفل بأن تلك الرحلة “خدشته”، وحوّلته إلى طفلٍ عنيد، محطَّم داخليًا. إنها لحظة تحول نفسي عميق، حيث الطفولة تُصاب بكسور غير مرئية، تُشكّل الشخصية لسنوات قادمة.
بعض نقاط الضعف التي تستحق الوقوف عندها:
1. الإفراط في التفاصيل والوصف
القصة تعاني من طولٍ مفرط أحيانًا بسبب التركيز الكبير على التفاصيل الدقيقة، خصوصًا في وصف الشخصيات، الأماكن، أو الأحداث اليومية.
مثال: مشهد تجهيز السيارة، أو وصف العصا بكل مكوناتها الدقيقة، رغم أنه جميل، إلا أنه قد يشتت القارئ ويُبطئ الإيقاع.
المشكلة: يُضعف من عنصر “التكثيف السردي” ويجعل القارئ ينتظر طويلًا قبل أن يحدث أي تحول مهم في القصة.
وكما هو مجمع عليه عند نقاد القصّة القصيرة … فالتكثيف هو سر جمال هذا اللون من الكتابة الإبداعية.

2. تشوش محور القصة أحيانًا
رغم أن “العصا” تمثل رمزًا مركزيًا، إلا أن القصة لا تحافظ دائمًا على وحدتها العضوية. هناك تفرعات كثيرة (تفاصيل السفر، حياة الطفل، وصف الطريق…) تجعل القصة أقرب إلى سيرة ذاتية قصيرة منها إلى قصة محورية مشدودة الحبكة.
النتيجة: يُمكن أن يضيع القارئ بين خطوط متعددة، ويضعف إحساسه بالمركز العاطفي أو الحدثي للقصة.

خلاصة نقدية
رغم هذه الملاحظات وغيرها، تبقى القصة غنية ومؤثرة، ولا تفقد تأثيرها العاطفي أو رمزيتها.
أخيرًا المجموعة رغم أنَّها الإصدار الأول للكاتبة، ألا إنها متجاوزة تحديات البدايات وعثراتها بكثير، كما أنّها تشي بولادة قاصة مميزة، وروائية واعدة، وأحسب أن الكاتبة لديها أدوات ومهارات الكتابة الروائية بجانب القصصية.

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى