
أعلام في حديث الذاكرة (1)
“ترسو على شواطئِ نفوسِنا أطيافٌ بانوراميةٌ لشخصياتِ لامستْ بدماثتِها شغافَ قلوبِنا، فحفرتْ أسماءَها في ذاكرتِنا، لتبقى خالدةَ، لا تقوى الأيامُ على مَحْوِها…”
بهذه الكلمات استهللتُ كتابي أعلام في حديث الذاكرة الصادر عام 1440هـ، وهي تمثل الدافع الإنساني العميق للحديث عن أولئك الذين رحلوا بأجسادهم وبقيت سيرهم تضيء الذاكرة الوطنية والثقافية والفكرية.
في هذه السلسلة التي تنشرها صحيفة مكة الإلكترونية، نستعرض شخصيات بارزة كان لها دور ريادي في بناء الوطن وخدمة المجتمع، ممن جمعتهم صفات النبل والتواضع والتفاني في العمل. ونبدأ بمعالي الدكتور محمد عبده يماني – رحمه الله – أحد أبرز رموز العمل الوطني والفكري والإعلامي في المملكة.
ابن المسفلة.. الذي حمل مكة في قلبه
ولد الدكتور محمد عبده يماني في مكة المكرمة، وتحديدًا في حي “المسفلة”، الحي ذاته الذي نشأت فيه، ولذلك لم تكن علاقتي به مجرد معرفة رسمية، بل علاقة وجدانية تشكلت من الجيرة والذاكرة المشتركة. لازلت أذكر دكان والده، العم عبد الله عبده، الذي كان تربطه علاقة صداقة بوالدي – رحمهما الله – وكان يقع بجوار قهوة عم حسن مطر، بالقرب من بركة “ماجل” الشهيرة.
كان معاليه بارًّا بوالده، مخلصًا في خدمته، نشاهده – ونحن تلاميذ في المدرسة الناصرية الابتدائية – يوصل والده إلى الحرم لأداء الصلاة، في مشهد لا يُنسى، خصوصًا خلال فترات الإجازة الصيفية. كان حينها معيدًا في جامعة الملك سعود بالرياض.
تواضع العالم.. وشفاعة الإنسان
رغم تقلده مناصب عليا، بدءًا من مدير جامعة الملك عبد العزيز، وحتى وزير الإعلام، لم تغره المناصب، بل كان يحمل همّ المحتاجين، يسعى في شفاعاتهم، ويبذل جاهه في قضاء حوائجهم. كان ذلك ديدنه، خصوصًا بعد تقاعده من العمل الحكومي، فكرّس وقته للأعمال الخيرية والتطوعية، وكما يُقال: “لا يبخل بجاهه”، وهذا ما عايشته شخصيًا.
حكاية لم تكتمل.. وخيرٌ ساقه الله
عندما كنت طالبًا في كلية التربية بمكة المكرمة، التابعة حينها لجامعة الملك عبد العزيز، كان معاليه مديرًا للجامعة. وبعد تخرجي – وكنت الأول على دفعتي – تقدمت لوظيفة “معيد” بالكلية، ولم يُكتب لي القبول. لم أُخبره بذلك، لكن والدَه – بحكم علاقته بوالدي – علم بالأمر، فنقله إلى ابنه الدكتور محمد، الذي بادر بالاتصال بي عبر مدير مكتبه آنذاك الأستاذ أحمد القحطاني، وحدد لي موعدًا لمقابلته في مكتبه بالطائف.
ذهبت، وكان اللقاء ودودًا للغاية، استقبلني بابتسامة وقال: “بشر، زحلقوك؟”، في إشارة لطيفة إلى رفض طلبي. كتب لي خطاب توصية للمسؤول عن شطر الجامعة بمكة، ولكني لم أستخدمه، إذ آثرت ما قدره الله لي. وبعد سنوات، شاء الله أن أُبتعث، وأن أعود لاحقًا مديرًا للجامعة نفسها التي لم تقبلني معيدًا!
وعندما صدر الأمر الملكي بتعييني، كان معاليه من أوائل المهنئين، واتصل بي قائلًا: “مبروك يا ابن حارتي”، في لحظة لن أنساها ما حييت.
كرسي علمي.. امتداد لسيرته العطرة
تكريمًا لمسيرته الزاخرة بالعطاء، أُنشئ في جامعة أم القرى “كرسي الدكتور محمد عبده يماني لإصلاح ذات البين”، بدعم كريم من أسرته، وهو امتداد طبيعي لما كان عليه – رحمه الله – من سعي دائم في الإصلاح وخدمة الناس، فامتدت أعماله الخيرة حتى بعد رحيله، ليبقى اسمه حاضرًا في ميادين الخير والوفاء.
شاعر المكارم.. وحياة لا تموت
ولعل في أبيات الإمام الشافعي ما يلخص سيرة هذا الرجل العظيم:
الناسُ بالناسِ ما دامَ الحياءُ بهمُ
وأفضلُ الناسِ ما بين الورى رجلُ
تُقضى على يدِه للناسِ حاجاتٌ
قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ مكارمُهمُ
وعاشَ قومٌ وهمْ في الناسِ أمواتُ!
رحم الله الدكتور محمد عبده يماني، وكتب له أجر ما قدم، وجعل ذكراه باقية في قلوب محبيه، وجعل كرسيه العلمي منارة علم ونور.
يا معالي الدكتور بكري، بالأمس تكتب عن أم كلثوم فتثير فينا شعورنا بالحنين للماضي واليوم يكتب معاليكم عن شخص أحببته وعشقته ولازمته. فعندنا كان معاليه مديرا لجامعة الملك عبد العزيز كنت طالباً وفي نفس الوقت كنت كابتن منتخب الجامعة شطر مكة. ثم ذهبنا لنشارك في البطولة الرياضية الأولى للجامعات في المملكة. ومن هنا التقينا بمعالي الدكتور محمد عبده يماني وأيضا بمعالي الدكتور عبدالله نصيف شفاه الله، وتطورت علاقتي به عندما اختارني لأوزع له زكاة فاعل خير في مكة المكرمة، ثم زادت علاقتي بمعاليه مع مرور الأيام ثم سافرت معه إلى جنوب إفريقيا في رحلة دعوية خيرية، ولازمته في سنوات عمره الأخيرة، حتىأن توفاه الله. فكان خير الأخ وخير المربي، فقد كان رحمه متواضعاً دمث الأخلاق سهل الطباع لطيف الكلام، مكاوي ابن حارة شهم كريم. علما أنني أقمت لمعاليه حفل تكريم كبير في منزلي، حضره السيد أمين عطاس رحمه الله، وعدد كبير من وجهاء مكة المكرمة. كما أقمت له حفل تأبين بعد وفاته، رحم الله الدكتور محمد عبده يماني رحمة واسعة. وجزاكم الله خيرا
حقيقة عُرف د. محمد عبده يمانى بهذا الجانب الإنسانى الخيرى الذى أشار إليه معالى الأخ الدكتور بكرى عساس من الناحية الإجتماعيه وقد يسمح لى أخى د. بكرى أن أضيف أن د. محمد عبده تميز سياسيا بظرف وقبول لدى القياده الحكيمه فى بلادنا الغاليه مع الملك خالد رحمه الله وإخوته الكرام الملك فهد والأمير سلطان والأمير نايف رحمهم الله جميعا
والملك سلمان أطال الله فى عمره فكان أكثر الوزراء لباقة فى الحديث وشفافية تأنس لها
النفوس رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.