في الساعات الأولى من صباح الخميس 22 مايو 2025م، اخترق دويُّ الرصاص صمت حيّ من أكثر المواقع تحصيناً في العاصمة الأميركيّة، حين ترصّد إلياس رودريغيز (31 عاماً) خروجَ أربعةٍ من موظّفي السفارة الإسرائيليّة من حفلٍ دبلوماسيّ داخل “متحف اليهود الوطني”. أردى رصاصُه اثنين من الموظّفين ثم اعتُقِل وهو يهتف “حرّيّة لفلسطين” مرتدياً كوفيّة فلسطينيّة. لم يكن المنفِّذ فلسطينياً ولا ذا سجلّ أمنيّ مسبق، ما أبرز قدرةَ سياساتِ إسرائيل في غزّة والضفّة على إذكاء عداءٍ عابرٍ للجنسيّات والهويّات.
ارتدّت أصداء الهجوم سريعاً إلى تل أبيب؛ فقد نعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الضحايا ووصّف الفعل بأنّه “جريمة لاساميّة”، بينما دان الرئيسُ الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ الهجومَ مؤكّداً أنّ “الإرهاب والكراهية لن يكسرانا”، وحمَّل وزيرُ الخارجيّة جدعون ساعر ما سمّاه “تحريضاً دوليّاً” مسؤوليّة “الدماء اليهوديّة المسفوكة”. غير أنّ هذا الإجماع الظاهري يُخفي صراعاً سرديّاً أعمق حول جذور العنف: أهو كراهيةٌ عرقيّة أم ردُّ فعلٍ سياسي على احتلالٍ دام عقوداً؟
بلغ العداء لليهود مستوى قياسيّاً عام 2024م؛ إذ سجّلت المنظمات المختصّة أكثر من تسعة آلاف واقعة، ارتبط كثيرٌ منها مباشرةً بتصاعد الحرب على غزّة. بيئةُ الاستقطاب هذه تجعل من السهل أن يختلط نقد الاحتلال بخطابٍ لاساميّ، فينشأ عن ذلك مزيجٌ خطِر يصعُب التفريق فيه بين النقد المشروع والكراهية الدينيّة.
منذ اللحظة الأولى، سعت الحكومة الإسرائيليّة إلى إحكام تأطير الحدث تحت لافتة “معاداة السامية”. يستند هذا التأطير إلى “التعريف العملي” الذي اعتمدَه “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” عام 2016م؛ إذ يَعدّ بعض صُوَر انتقاد إسرائيل أمثلةً على اللاساميّة. ومنذ ذلك التاريخ تضغط تل أبيب لاعتماد التعريف في برلمانات الغرب وجامعاته، بما يمنحها مظلّةً قانونيّة تعيد تفسير أيّ احتجاجٍ على سياساتها بوصفه عنصريّةً عرقيّة.
هذا الخطاب يحقق ثلاث غاياتٍ استراتيجية. داخلياً، يُعيد توحيد الجمهور الإسرائيلي حول قيادةٍ تقدّم نفسها درعاً لليهود في وجه كراهيةٍ تاريخيّة، ويُبرِّر تشديد القبضة الأمنيّة في الأراضي المحتلّة. خارجياً، يستنهض عقدةَ الذنب الغربيّة، فيحوِّل الأنظار من انتهاكات حقوق الإنسان إلى حماية الأقليّة اليهوديّة عالمياً. تشريعياً، يُغذّي جهوداً في الكونغرس والبرلمانات الأوروبيّة لتمرير قوانين تُساوي بين مناهضة الصهيونيّة ومعاداة السامية، فتؤطَّر حملات المقاطعة والاحتجاجات داخل جامعات الغرب كخطاب كراهية يُجرَّم قانوناً.
مع ذلك، تُعَدّ عرقنة الصراع سيفاً ذا حدّين. فالإفراط في وصم كلّ انتقادٍ للاحتلال باللاساميّة يُقوِّض صدقيّة مكافحة الكراهية فعلاً، ويُعمِّق شعوراً عالميّاً بأنّ إسرائيل تهرب من المساءلة الأخلاقيّة. والنتيجة المرجّحة هي مزيدٌ من الغضب العابر للقارات يتجلّى في “ذئاب منفردة” يصعب رصدها أو التنبّؤ بها.
الهجوم الدمويُّ في واشنطن يُعيد تذكير العواصم الغربيّة بأنّ الصراع لم يَعُد شأناً شرق أوسطيّاً محضاً. فالعولمة السلبيّة للصور والأخبار جعلت ممارسات الاحتلال وقوداً لعداءٍ يتخطّى الحدود القوميّة والدينيّة. ومن ثَمّ، فإنّ تشييد الأسوار حول السفارات أو تمرير قوانين أشدّ صرامة ضد “اللاساميّة” سيظلّ مجرّد مسكّنٍ ظرفيّ ما لم يُحمَل ملفّ الاحتلال إلى مسارٍ سياسيّ جادّ يوقف شريان الدم ودوّامة النقمة التي باتت تطرق أبواب الغرب مع أولى خيوط الفجر.

0