المقالات

دبلوماسية محمد بن سلمان تكبح شبح الحرب وتستعيد منطق الدولة

في لحظة مفصلية من عمر الشرق الأوسط، ومع تسارع وتيرة التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، تبرز المملكة العربية السعودية كصوت عاقل ووازن يقود الدعوة إلى ضبط النفس، ويؤكد مجددًا التزامه الثابت بسيادة القانون الدولي، والحل السلمي للخلافات. وفي مشهد يعكس ثقل الرياض السياسي، أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان اتصالات رفيعة المستوى مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في مسعى لاحتواء الموقف ومنع انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة. لم يكن هذا التحرّك الدبلوماسي مجرّد استجابة ظرفية، بل هو تعبير عن عقيدة سياسية سعودية ترى أن الاستقرار ليس خيارًا تكتيكيًا، بل ضرورة استراتيجية يجب الحفاظ عليها وسط عواصف التحولات المتسارعة.

لقد اتسم الموقف السعودي منذ اللحظة الأولى بالوضوح والثبات، حيث عبّرت وزارة الخارجية عن إدانتها “للاعتداءات الإسرائيلية السافرة” التي استهدفت الأراضي الإيرانية، ووصفتها بأنها “انتهاك صارخ للسيادة، ومخالفة صريحة للقانون الدولي”. لم يكن البيان مجرّد تعبير عن الموقف الأخلاقي أو القانوني، بل يحمل في طيّاته رسائل سياسية تتجاوز البعد الثنائي في العلاقة الإيرانية الإسرائيلية، لتؤكد أن السعودية ترفض التحركات العسكرية التي تُخرِج التوتر من نطاق السياسة إلى منطق المواجهة المفتوحة، خاصة عندما تكون في توقيت يعجّ بتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية.

يأتي هذا الدور السعودي في لحظة شديدة التعقيد، حيث تتقاطع الحسابات النووية مع التحولات السياسية الجديدة في واشنطن، في ظل إدارة دونالد ترمب الثانية، التي تسعى منذ أيامها الأولى إلى إعادة فرض استراتيجيتها الصارمة في ملفات الأمن الإقليمي. وبينما تُعيد الإدارة الأميركية رسم أولوياتها في الشرق الأوسط بلغة أقرب إلى الحسم العسكري، تبرز الدبلوماسية السعودية كصوت متزن يحاول كبح اندفاعات التصعيد، وإعادة تأطير الأزمة ضمن أدوات القانون الدولي والحوار السياسي. ومما لا شك فيه أن إدارة ترمب الجديدة تتعامل مع الملف الإيراني بمنطق هجومي أكثر من كونه تفاوضيًا، وهو ما يرفع احتمالات التورط العسكري، ويقلّص من هامش المبادرات السياسية إن لم توجد قوى وازنة مثل المملكة تلعب دور الوسيط والضامن.

واللافت في هذا الحراك أن السعودية لا تمارس دبلوماسية المراقب أو المتفرج، بل تتقدم كمُهندس سياسي يحاول منذ لحظة الاشتعال الأولى فرض منطق العقل والحسابات الهادئة. فالاتصال المباشر الذي أجراه الأمير محمد بن سلمان بالرئيس ترمب، والاتصالات المتبادلة مع ماكرون وميلوني، ليست مجرد مجاملات سياسية، بل تعبير عن محاولة استباق التحول نحو الانفجار عبر إشراك العواصم المؤثرة في الغرب للضغط نحو التهدئة. هذا الدور لا ينعكس فقط في الشكل، بل في المضمون، حيث تؤمن المملكة أن أي تصعيد عسكري في المنطقة لن يكون له طرف منتصر، بل ستدفع الشعوب والدول ثمنه من أمنها واستقرارها واقتصادها لعقود قادمة.

الدبلوماسية السعودية هنا تشتغل بمنهج قائم على الردع الوقائي وليس الانجرار. وهي بذلك لا تدافع عن إيران، ولا تصطف مع إسرائيل، بل تدافع عن سيادة القانون الدولي، وعن منطق التوازن الذي بات مهددًا بمنطق الإلغاء والإقصاء. وبينما ترتفع أصوات الحرب من طهران وتل أبيب، فإن الرياض تعيد ضبط الإيقاع السياسي من خلال الدعوة إلى الحلول السياسية، والضغط على المجتمع الدولي للاضطلاع بدوره في كبح النزاع، وإعادة الأطراف إلى طاولة التفاوض. هذه ليست سياسة الحياد، بل سياسة المبادرة المدروسة القائمة على فهم ديناميات الصراع وميزان القوى وخرائط المصالح.

وتتجلى أهمية التحرك السعودي في أنه يأتي في سياق رؤية شاملة تتبناها المملكة منذ إطلاق “رؤية 2030″، حيث تضع الأمن والاستقرار شرطًا لأي مشروع تنموي. لذا فإن السعودية لا تفصل بين اشتعال الجبهات وبين تعطيل مشاريع التقدم، ولا ترى أن الصراع في المنطقة مجرد صدام عسكري بل نتيجة طبيعية لفشل النظام الدولي في تأمين الحلول الوقائية للنزاعات. ولهذا، فإن موقفها يتجاوز اللحظة، ليؤسس لمعادلة إقليمية جديدة، يكون فيها الصوت العربي حاضرًا بقوة، لا تابعًا أو هامشيًا.

وفي ظل هذا الواقع المشحون، تبرهن المملكة أن سياستها الخارجية لم تعد رهينة التوازنات التقليدية، بل باتت فاعلًا مباشرًا يصنع التوازن نفسه. فبين خطاب القوة وخطاب العقل، اختارت السعودية أن تكون صوت الحكمة في زمن التهور، ومركز استقرار في زمن الانهيار. هذه ليست مهمة سهلة، لكنها دور تاريخي اختارته المملكة، وهي تمتلك كل مقومات القيام به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى