في سكون مساء 27 مايو 2025م، لم يكن تعديل تنظيم الدعم السكني قرارًا إداريًا عابرًا، بل إعلانًا آخر عن فلسفة حكمٍ تتشكّل في الرياض، حيث لا تنفصل الاستراتيجيات الاقتصادية عن المعنى العميق لكرامة الإنسان، ولا تُبنى الأنظمة إلا على قاعدة صلبة من الإنصات للمجتمع وتحليل متغيراته.
ففي خضمّ مسارٍ وطنيٍّ طويل تقوده رؤية المملكة 2030، اختار صانع القرار السعودي أن يُعيد هندسة أحد أكثر الملفات التصاقًا بالمواطن: السكن. وهو بذلك لا يُجري “تعديلًا” فنيًا بقدر ما يُمارس وظيفة الدولة في أسمى صورها: رعاية الإنسان بوصفه الهدف والوسيلة.
لقد عكست التعديلات روحًا جديدة تتجاوز النصوص إلى الناس. فخفض سن الاستحقاق من 25 إلى 20 عامًا لم يكن مجرد رقم يتغير في اللائحة، بل إدراك عميق لتحوّل ديمغرافي واجتماعي، تُبادر فيه الدولة إلى تمكين الشباب من الحلم قبل أن يستنفدهم الانتظار.
كما أن رفع القيود عن النساء – بإلغاء شرط إثبات الإعالة – جاء بمثابة إعلان واضح يؤكد أن الدولة تعتمد على المرأة كشريك مساند للرجل، فالـ”المواطنة الكاملة” تكون بالمساهمة في البناء والتطوير، فلها أن تبني وتطور. هذه التحولات ليست إجرائية فقط، بل تعبير عن تحوّل في هندسة السلطة ذاتها: من نظام وصاية فوقية إلى مشاركة أفقية.
في هذا التوقيت، لم يكن القرار بمعزل عن منطق اللحظة السياسية. فمع تقدم مسار الرؤية، تبدو الدولة السعودية مصممة على تقديم نموذج تنموي مغاير للمنطقة، يقوم على تحقيق التوازن بين الرفاه والسيادة، بين الطموح الشعبي والانضباط الإداري.
ولذلك، فإن دعم السكن لا يُفهم اليوم كمجرد مشروع إسكاني، بل هو جزء من هندسة الاستقرار الوطني، حيث يُمنح المواطن حصة من الأرض كأنها حصة من الوطن، ويُعطى سقفًا فوق رأسه كأن الدولة تقول له: “لك مكانك في هذا المستقبل”.
واللافت أن التعديلات لم تكتفِ بتوسيع الشمول، بل أعادت رسم قواعد التصرف في الدعم، بتقليص المدة الممنوعة للتصرف في العقار من عشر سنوات إلى خمس. ذلك ليس تساهلًا، بل تكيّف مع منطق السوق والمرونة الاقتصادية، وهو ما يعكس نضجًا في فهم الديناميكيات الاجتماعية والمالية للأسرة السعودية الجديدة.
وبالمقابل، شدّدت التعديلات الرقابة على صحة البيانات، لتُثبت أن الدولة لا تُفرّط في الانضباط حين توسّع دائرة المستفيدين. إنه توازن دقيق بين التمكين والمساءلة، لا يتحقق إلا في الدول التي تُدرك أن الثقة لا تعني الغفلة، وأن الرخاء لا يأتي بلا رقابة.
السكن ليس سقفًا من إسمنت، بل هو أساس من كرامة. ومن هنا، فإن ما حدث في مجلس الوزراء لم يكن قرارًا فنيًا فحسب، بل خطوة في مسيرة تكريس عقد اجتماعي سعودي جديد، يربط بين القيادة والمواطن، وبين الدولة والمستقبل.
وهكذا، تُثبت المملكة أنها لا تسابق الزمن بالأبراج والمشاريع فقط، بل أيضًا بمراجعة الأنظمة، وبصياغة سياسات تُقاس لا فقط بما تُنفقه، بل بما تُشعر به مواطنيها من أمان، وانتماء، وإيمان بأن الغد يُبنى لهم لا عليهم.

0