تختلف بطبيعة الحال وقائع المجتمعات وعاداتها وتقاليدها عبر الأزمان المتتالية بمعنى أن لكل مجتمع أعرافه ومبادئه التي يؤمن بها أفراده. فمثلاً وقبل أن يظهر علينا “الفاهمون الجدد” في وسائل التواصل الاجتماعي كان رأي الرجل الكبير في المجالس حتّى وقت قريب له كل الاحترام والتقدير مهما اختلفت المعلومة، واقتربت من الدقة أو ابتعدت، فلا يُِكذب فيما قاله، ولا يُستهزأ به، وإن كان ولا بدّ من التصحيح فهو في حدود ضيقة ومن أجل الفائدة العامة وبكل أدب وإجلال وبعد ثناء واستئذان في إضافة بعض المفيد إلى الحديث السابق وكانت تسبق تلك المداخلة المقولة الجميلة: (وأنت صادق) هذا غير النقاشات التي كانت تتسم في احترام الرأي الآخر، وعدم التعدي عليه، أو السخرية منه، كما أن صاحب الرأي في الغالب كان يملك الحديث الصادق، ولا يتحدث إلابما هو من باب المؤكد، ويتصف بالموثوقية وليس من باب قضاء أوقات الفراغ ليس إلا.
وفي الوقت الحالي أصبحت النقاشات الاجتماعية مطروحة في مواضيع عديدة وتجذب الكثير من الناس في المجالس الافتراضية بدلاً من المجالس الواقعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي سواء في: برنامج الواتساب، أو إكس، أو التيك توك، وغيرها وفي اعتقادي أن برنامج الواتساب الأكثر شهرة الذي يتم فيه تداول النقاشات العامة؛ لسهولة تواصل الجميع من أقل شهادة تعليمية حتّى أعلاها، ومن ضعيف التفكير إلى المتميز في تفكيره، ومن فقير الأدب إلى صاحب الأخلاق سواء كاتت هذه المواضيع دينية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أوغيرها فبمجرد طرح موضوع للنقاش العام تجد القلة من الآراء المنصفة ذات الأفكار النيرة والتي تهدف إلى الإدراك، والمعرفة، ونشر ثقافة الوعي والتي يمثلها على سبيل المثال فقط وبكل إنصاف المستشار الاجتماعي أ.خالد الصُماني مقابل أغلبية همها الأول والأخير الانتصار لرأيها الشخصي فهي ترى أن رأيها صائب، وتحاول الرد بقسوة لحد قلة الذوق على كل من يخالفها الرأي.
إن الغاية من النقاشات الاجتماعية الهادفة هو الوصول إلى الرأي الصائب، والحل الناجع والذي يُفيد الآخرين في حياتهم اليومية، فنجد بعضاً من هؤلاء ممن يدرك أهداف إرسال المشاركات المكتوبة، بل تجد فيهم من يحلل ما وراء الخبر الوارد من رؤية واضحة، أو فكرة جديرة بالاهتمام، بعد الربط بين مختلف المعطيات. فمثلاً لو أصدر مسؤول ما في الإدارة العليا تعميماً عاماً فلا بدّ لهذا التعميم من تفسيرات لاحقة من الإدارة الوسطى وصولاً إلى الإدارة الدنيا، ولكن تجد بعض الناس في بعض وسائل التواصل يتلقف الخبر ويفسره على مزاجه، أو بالأصح على قدر تفكيره وهو في واقع الأمر بعيد كل البعد عن الحقيقة، وللأسف عندما يكتشف خطأ تفسيره لذلك التعميم، أو ذلك القرار لا يملك الشجاعة الكافية في الاعتذار عن الخطأ في كلامه. وعلى أي حال تظل هذه المقولة الشهيرة تختصر واقع كثير من الناس في مواقع التواصل:” الذين يعلمون لا يتكلمون، والذين يتكلمون لا يعلمون” وكان الله في العون.
“نقاشات اجتماعية.. بين أصالة الماضي وحداثة الحاضر”
لا يسعني إلَّا أن أُشيد بالإطراء الرصين والكلام الحكيم الذي كتبه الصحافي المتميز الأستاذ عبدالرحمن عبدالقادر الأحمدي في مقاله الرصين، حيث ألقى الضوء على جوهر النقاشات الاجتماعية وأهميتها، وبيّن الفرق الواضح بين تلك التي كانت تُعقد في المجالس القديمة، والتي كانت قائمة على الاحترام والصدق، وبين تلك التي تُدار اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي باتت تتسم أحيانًا بالهذر والجهل. فمقاله هو بمثابة مرآة عاكسة لواقعنا، ومُلخصٌ دقيق لرحلة تطور النقاشات من زمن كانت فيه الكلمة مسؤولية، إلى زمن أصبح فيه الجهل يُعبر عن نفسه بصوت عالٍ، وأحيانًا بمقولات لا تليق بمقام الفكر والمعرفة، مثل الذي: “يهرف بما لا يعرف!”.
وفي رحلة الحديث التي أضاء فيها الأستاذ الأحمدي، نجد أنه قد أرسى قواعد الحكمة وأكد على أن الهدف الحقيقي من أي نقاش اجتماعي هو الوصول إلى الحقيقة، وإيجاد الحلول النافعة، وليس مجرد الانتصار للرأي الشخصي أو التمترس وراء الجهل والسطحية. إن مقاله هو دعوة صادقة لنبذ السلوكيات التي تُعلي من شأن الجهل، وتُقلل من قيمة الحوار البنّاء، ويذكرنا أن المعرفة الحقة لا تُقاس بعدد الكلمات، وإنما بمضمونها وعمقها.
وفي خضم هذا السياق، يبرز بقوة قول الأستاذ الأحمدي، أن “الذين يعلمون لا يتكلمون، والذين يتكلمون لا يعلمون”، وهو قول يحمل في ثناياه رسالة قوية، تؤكد على أهمية التواضع العلمي، والحكمة في الكلام، والتواضع أمام حقائق المعرفة. فمقاله يُعد بمثابة نداء لثقافة الاحترام، والتواضع في الحوار، والتأمل في عمق القضية قبل إطلاق الأحكام.
وفي الختام، فإني أؤكد أن مقال الأستاذ عبدالرحمن عبدالقادر الأحمدي هو إضافة نوعية ونافعة، يذكرنا بأهمية الحفاظ على أصالة تقاليدنا، وتوجيه جهودنا نحو بناء نقاشات هادفة، تثمر خيرًا، وتُسهم في تعزيز الوعي، وتربية أجيال تتسم بالحكمة والاحترام، بدلًا من الانجرار وراء الجهل والتعصب. فلتكن كلماتُه نبراسًا لنا؛ لنرتقي بمستوى حواراتنا ونحافظ على جوهر الإنسان وقيمه.
عدنان🌷