الممالك الإسلامية في إفريقيا وسياق النشأة
شهدت القارة الإفريقية منذ القرون الوسطى قيام عدد من الممالك الإسلامية العريقة التي شكّلت رافعة دينية وحضارية في قلب القارة. اتسمت هذه الممالك، مثل مالي وسنغاي وكنم–برنو ودارفور، بمزجٍ متقن بين الدعوة الإسلامية والتنظيم السياسي، وبين الفاعلية التجارية والدور الثقافي.
وفي هذا السياق، برزت سلطنة وداي الإسلامية كإحدى الكيانات المشرقية في إفريقيا الوسطى، التي وحّدت بين الدين والتجارة، وفرضت سيادتها على مساحات واسعة شرق بحيرة تشاد، لترسم ملامح دولة إسلامية أفريقية استطاعت أن تصمد أكثر من قرنين في وجه التحديات الداخلية والضغوط الاستعمارية الخارجية.
النشأة التاريخية ومؤسس السلطنة
نشأت سلطنة وداي في أوائل القرن السابع عشر الميلادي (حوالي عام 1635م)، بجهود القائد عبد الكريم بن جامع، الذي ينتمي إلى جماعة المابا ذات الجذور العرقية العريقة في المنطقة. تأثر عبد الكريم بالفكر الإسلامي الذي كان ينتشر في سلطنة دارفور المجاورة، خصوصًا النمط الديني للحكم والتنظيم القضائي المستند إلى المذهب المالكي.
استفاد عبد الكريم من هشاشة الوضع السياسي في الإقليم، وتمكن من توحيد القبائل المحلية تحت راية الإسلام، مؤسسًا نظامًا يجمع بين القيادة العسكرية والمرجعية الدينية. كانت البداية في منطقة عبشة، التي أصبحت لاحقًا عاصمة السلطنة.
أبرز القادة السياسيين والعسكريين
تميّزت سلطنة وداي بتعاقب عدد من السلاطين البارزين، ممن تركوا بصمات في إدارة الدولة، ومن أبرزهم:
• عبد الكريم بن جامع (1635–1665م): المؤسس، واضع اللبنات السياسية والدينية للدولة.
• يعقوب أرّب (1680–1707م): رسّخ الاستقرار الداخلي، واهتم بإنشاء المدارس الإسلامية.
• محمد صبّو: واصل التوسعات العسكرية، وكرّس وداي كقوة إقليمية.
• علي بن يوسف (1874–1901م): قاد المقاومة ضد الغزو الفرنسي، ويعد من أشرس المدافعين عن استقلال السلطنة.
• دود مرسى (1901–1909م): آخر السلاطين، حاول الحفاظ على السلطنة بالمفاوضة، إلا أن العاصمة عبشة سقطت في عهده.
اشتهرت السلطنة بتنظيم عسكري محكم، وكانت تمتلك فرقًا خاصة مثل “الفرقة الحمراء” التي كانت نخبة الفرسان، إلى جانب تشكيلات قبلية مسلحة وتحالفات محلية حافظت على هيبة الدولة.
العوامل المؤسسة للسلطنة
لم تأتِ نشأة السلطنة من فراغ، بل كانت ثمرة تلاقح لعدة عناصر، منها:
• الفراغ السياسي الناتج عن انهيار الكيانات القبلية السابقة.
• الطموح الديني لإنشاء دولة ذات مرجعية إسلامية، مدعومة بالعلماء والفقهاء.
• الطابع التجاري، حيث كانت المنطقة مفترق طرق بين الشمال الصحراوي (فزان وطرابلس) والجنوب النيلي (دارفور وكنم).
• تأثر النموذج السياسي والديني لدارفور المجاورة، خاصة في اعتماد القضاء على المذهب المالكي، ونفوذ العلماء في الحياة العامة.
الامتداد الجغرافي والموقع الاستراتيجي
امتدت سلطنة وداي على رقعة جغرافية واسعة شملت:
• شرقًا: إلى حدود سلطنة دارفور.
• غربًا: نحو بحيرة تشاد.
• شمالًا: إلى بني كيدي قرب الجنوب الليبي.
• جنوبًا: نحو وادي سالامات وما بعده.
موقعها جعل منها مركزًا لتبادل السلع (كالملح والذهب والنحاس) والقوافل العابرة من طرابلس وفزان إلى السودان الأوسط، كما ساعدها هذا الموقع على التأثير في محيطها الثقافي والديني.
الإنجازات السياسية والدعوية
تميزت سلطنة وداي بإنجازات واضحة على أكثر من صعيد، أبرزها:
• نشر الإسلام في المناطق المجاورة، عبر الدعاة والعلماء، وبناء المساجد والمدارس.
• تأسيس جهاز قضائي إسلامي يستند إلى المذهب المالكي، مع مشاركة فعالة للعلماء في الشؤون السياسية.
• إقامة علاقات تجارية مزدهرة مع ولايات شمال إفريقيا كطرابلس وفزان، ومع سلطنة دارفور وكنم.
• بناء عاصمة حضارية (عبشة) تحولت إلى مركز علمي وسياسي، يُضاهي مراكز الحكم الإسلامية الأخرى في إفريقيا.
مكانة السلطنة في الذاكرة الإفريقية والإسلامية
لا تزال سلطنة وداي حاضرة في الذاكرة الجماعية للعديد من الشعوب الإفريقية، خاصة بين المابا والزغاوة والبرنو. فهي تعد نموذجًا لـ:
• سيادة إسلامية محلية غير تابعة لأي مركز خارجي.
• التوازن بين الدين والعرف، حيث احتفظت السلطنة بثقافتها الإفريقية مع التمسك بالثوابت الشرعية.
• رمز للمقاومة ضد الزحف الاستعماري الأوروبي، خاصة في نهايات القرن التاسع عشر.
نهاية السلطنة وأسباب الزوال
واجهت السلطنة في أواخر القرن التاسع عشر تحديات كبيرة، أدت إلى زوالها، وأهمها:
• التوسع الاستعماري الفرنسي، الذي بدأ يزحف من تشاد الوسطى.
• الضعف الداخلي بسبب النزاعات الأسرية على الحكم.
• انهيار التجارة التقليدية، بعد تحوّل طرق التجارة البحرية الأوروبية.
• سقوط العاصمة عبشة عام 1909م، واعتقال السلطان دود مرسى، ما مثّل نهاية فعلية للسلطنة.
قراءة في الرؤية الإفريقية والغربية
المؤرخون الأفارقة:
أشاد العديد من المؤرخين الأفارقة بالسلطنة، ومنهم:
• الشيخ أنتا ديوب: الذي اعتبرها نموذجًا لتفاعل الإسلام مع الهوية الإفريقية.
• عمر كان: أكّد على دورها في نشر الإسلام وتعزيز الحكم المحلي.
المستشرقون والمصادر الغربية:
• رينيه كايلّي تحدث عن عبورها كمركز استراتيجي للقوافل.
• ألفرد لوبوا وصفها بأنها “حصن الإسلام في قلب إفريقيا”.
• بعض المستشرقين صوروا السلطنة بشكل سلبي باعتبارها معادية للتقدم الأوروبي، لكن آخرين اعترفوا بعمق مؤسساتها واستقلالها الثقافي.
خاتمة
إن تجربة سلطنة وداي الإسلامية تكشف عن إمكانية توطين الإسلام في قلب إفريقيا دون تفريط في الهوية الثقافية أو الإرث المحلي. فقد كانت السلطنة دولة دعوية وتجارية وحضارية في آنٍ، شكلت صلة وصل بين العالم الإسلامي العربي والإفريقي. واليوم، تبقى سلطنة وداي نموذجًا مهمًا في دراسات الحكم الإسلامي، وتاريخ الدعوة، والعلاقات الإفريقية–الإسلامية.
المراجع والحواشي
1. النعيم، محمد عمر. تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الأوسط. دار الفكر، الخرطوم، 2002.
2. Diop, Cheikh Anta. Precolonial Black Africa. Lawrence Hill Books, 1987.
3. Levtzion, Nehemia. Islam in West Africa: Religion, Society and Politics to 1800. Cambridge University Press, 1979.
4. Lange, Dierk. “The Kingdom of Wadai.” In The Cambridge History of Africa, Vol. 4, Cambridge UP, 1975.
5. Kaillé, René. Travels through Central Africa to Timbuktu. 1830.
6. Shillington, Kevin. History of Africa. Macmillan, 2012.
7. O’Fahey, R. S. Islamic Revival in Africa. Brill, 2001.
8. Abdurrahman, M. Sultans and Scholars in the Central Sudan. Lagos Press, 1999.
9. Trimingham, J. Spencer. Islam in West Africa. Oxford University Press, 1962.