المقالات

الباحة.. ( نبض الجبل1-4)

Wait! Generating MP3 Batch No. 2 out of 19

الباحة…  حين تتكلم الأرض وتغني الحجارة وتبتسم الذاكرة

في قلب جبال السروات، حيث الغيم ينحني للجبل مودعًا الشمس، وحيث النسائم تعزف أنغامها على قممٍ شامخة، تجثو الباحة كأنها بيتُ القصيد من ملحمة الجنوب. إنها ليست مجرد مدينة، بل حلم أخضر يرتدي الضباب ويكتب بالمطر.

تقع الباحة جنوب غرب المملكة العربية السعودية، وهي من أصغر المناطق الإدارية مساحة، لكنها من أغناها في التنوع البيئي والجمالي. على ارتفاع يتجاوز 2200 متر فوق سطح البحر، تتنفس المدينة هواءً عليلًا يشبه نسيم الصباح الأول، ويُشكّل مناخها المعتدل عنصر جذب رئيسيًا لآلاف الزائرين في كل عام، خاصة في الصيف، حيث تتحول إلى مصيفٍ يضم بين جنباته الهدوء والدهشة.

يُطلق على الباحة
لقب “حديقة الحجاز” و**“عروس الجنوب”**،
وهما تسميتان لا تُعطيان إلا لمن يجمع بين الخَصْب والرونق. ففي غاباتها المتنوعة والمتعددة كغابة رغدان
، يتقاطع الضوء مع أوراق العرعر، ويهمس الطلح للريح بأسرار الجبل. هناك، لا يُعدّ الظل ملاذًا من الشمس فحسب، بل هو مكان لتأملٍ هادئ وسكينة تروي الأرواح قبل الأجساد.

وإلى الجنوب، تبرز غابة القمع بمحافظة بلجرشي، حيث يمتد مشروع تلفريك أثرب ليهبط من أعالي السراة نحو سهول تهامة، في تجربة لا تُنسى، تأخذ الزائر بين طبقات الجمال، من الارتفاع إلى الامتداد، من النسيم إلى رائحة الأرض.

وفي الشمال، تتزين محافظة المندق بسحرها الأخاذ، حيث تكثر المدرجات الزراعية، وتتمازج خضرة الطبيعة مع زُرقة السماء في توازن بصري يدهش العين.

ومن معالم الباحة التاريخية الخالدة، تقف قرية ذي عين الأثرية شامخة، تُعانق الجبل وتشرب من مائه. تعود إلى قرون، سحيقة ضاربة في خاصرة التاريخ
وتُعرف بعينها الجارية التي لا تنضب، تُسقي أشجار النخيل وتهمس للذاكرة بتاريخ الأجداد. أما مبانيها الحجرية البيضاء، فتعكس إبداع الإنسان الجبلي، ودرايته بفنون التشييد في بيئة تتطلب الصبر والدقة والانسجام مع التضاريس.

ويُكمل قصر بخروش بن علاس الحكاية، ذلك القائد البطل الذي وقف في وجه الغزو العثماني، فخلّده التاريخ في حجارةٍ لا تزال تروي للزائرين بطولات السراة وشموخ أهلها.

ولا تكتمل الباحة دون المرور على أسواقها الشعبية، كسوق السبت، الذي لا يزال يحتفظ بعبق الأزمنة، حيث تُعرض الحِرف التقليدية: نحت الخشب، حياكة السلال، وصياغة الأواني والمباخر، في مشهد يُعيد للذاكرة بهاء البساطة، وفن البقاء.

وقد أنصفها الأديب البحتري الشاعر
حسن الزهراني حين قال:
يا باحةَ الحسنِ ما زالتْ قصائدُنا
تنمو على ضفّتيكِ الخضرِ والشجرِ

تهديكِ من وجعِ الأشواقِ أغنيةً
وتزرعُ الضوءَ في عينيكِ والقمرِ

يا نشوةَ الحرفِ يا وجداً يُباركُنا
من سِحرِكِ العذبِ نمضي دونَ ما حذرِ

في الباحة، ليس الجمال شيئًا يُرى فقط، بل يُحسّ، ويُشمّ، ويُسمع، وتُدركه الحواس مجتمعة. إنها تجربة شعورية غامرة، من غابةٍ تفوح بعطر العرعر، إلى قريةٍ تنطق بالحجر والتاريخ، إلى طقس صباحي تتقاطر فيه القهوة على إيقاع المطر.
هكذا هي الباحة… الجنوب حين يُطل من نافذة الروح، ويبتسم في وجه الغيم.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الباحة باتت العروسة الإنيقة في السراة
    بكل ما تملك من الإرث والتطور..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى