
يقول أبو العلاء المعري:
تَعَبٌ كُلُّها الحَياةُ فَما أَعْـجَبُ
إِلّا مِن راغِبٍ في ازْديادِ
إنّ حُزْنًا في ساعةِ المَوْتِ أضْعَافُ
مِن سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
ربما معظم الناس يرغبون في طول العمر، لدرجة أن الكلمة المفضلة عند بعض الشعوب هي: “طال عمرك”. وهي قد تُؤخذ على محملين: أحدهما الدعاء الصادق بطول عمر المتلقي، والآخر -عند بعض العيارين– بمعنى: “ترى طال عمرك كفاية، فارقنا!”
والرغبة في الحياة، رغم عدم تناغم شجونها – وهذا أبسط عيب فيها – لا تزال مطلبًا حتى عند من بلغ من العمر عتيًّا. فالناس، رغم العذاريب، لا يملّون من الدعاء لأنفسهم خاصة بأن يطيل الله أعمارهم، مع أن البعض منهم طال عمره، وأصبح مصدر أذى لمن حوله ممن اكتووا بنار بغضه وحسده وحقده.
وهناك القلة – أو ربما النادرة – ممن يردد قول زهير بن أبي سلمى:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِشْ
ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِبْ
تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّرْ فَيَهرَمِ
لقد ملّوا من هذه الحياة لما واجهوا فيها من جحود ونكران من أقرب وأعز الناس إليهم. فالبعيد وإن كان جحوده مؤلمًا، فإن نكران القريب أشدّ إيلامًا، كما قال طرفة بن العبد:
وظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً
عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
ويقول بعضهم: من عوامل سآمتنا أن إيقاع الحياة بات بطيئًا؛ فقد كبرنا، وشاخت معنا تفاصيل صغيرة كانت تبث فينا حب الحياة. فما كنا نخطوه في دقائق، قد نحتاج الآن إلى ساعات لنقطعه، والقصد ليست المسافة فحسب، بل المشاعر التي ذبلت كثيرًا.
فبعد أن كنا نلحظ في العيون شعاعًا يجري حوارًا سريعًا مع القلب – ولو على حين غِرّة – يشعرنا بأن القلوب لا تزال خضراء، حتى وإن كان ذلك عابرًا.
أيضًا، طالت المسافات بين ثقافاتنا وأقرب الناس إلينا؛ فبعد أن كنا، في كل صباح – وكأنه فرض – نأخذ رضا الأجداد والوالدين بالسلام عليهم وتقبيل أيديهم وجهًا وقفا، أصبحنا اليوم نترقب رسالة على هاتف أصم، وقد تأتي من الأبناء أو الأحفاد، ولكن… “أبشر بطول سلامة يا مربع!”
أما المسافة مع الجيران، فهي بالأمتار، لكن الجدار بالجدار أصبح رمزًا للهجر والقطيعة، كرصاصة ألم وندم على أيام الجيرة الحلوة التي كنا نغنيها:
“الجيرة الحلوة على الراس والعين”
والآن صاروا فين، ونحن فين؟
لقد تسببت الأحياء الجديدة – بكل جمالها الشكلي – في تفرق العديد من الأسر والجيران. كانت الأزقة الصغيرة تحكي قصص الوفاء والعِشرة الطيبة، والإيثار من الجار لجاره؛ فلا ينام إلا بعد أن يطمئن عليه. وكانت تلك الأزقة تشهد الأفراح والليالي الملاح، كما كانت تشهد التضامن في أوقات المآسي والأحزان.
انتقل الكثير إلى الأحياء الجديدة، فتوسعت المسافات، وتفرّق الأحباب، وتبعثرت خُطى الأصحاب، وأصبح من يحرص على صداقات السنين يمشي في مناكبها ليعاود تلك الأيام، فيجد الأرض قفرًا، والمزار بعيد.
يسأل: أين هم؟ فيأتيه الجواب:
“يا سيدي، وهم بجوارنا ما كنا نعرف هم مين ولا من فين ”
فيسترجع قول قيس بن الملوح:
أَمُرُّ على الديارِ ديارِ ليلى
أُقَبِّلُ ذا الجدارا وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ شغفَن قلبي
ولكن حبُّ من سكن الديارا
سأم الحياة له أبعاد متعددة، وبوح مختلف.
فعلى الطرف الآخر، هناك من يُعلن حبّه للحياة بصدق، مثل الشاعر سعد بن نايف بن وطبان البقمي:
مَكَثتُ أطوفُ في لذّاتها طَربًا
ولم أُبالِ إذا ما الدهرُ أغضبَني
ويقول إيليا أبو ماضي:
أيـهـا الـشـاكـي ومـا بـك داء
كــيـف تـغـدو إذا غـدوت عـلـيـلا؟
إنّ شـرّ الـجـناة في الأرض نفسٌ
تـتـوقّى قبل الرحيل الرحيلا
وتـرى الـشوكَ في الورودِ وتعمى
أن تـرى فوقهُ الندى إكليلا!
ويقول آخر:
فإن عشتُ، عشتُ قريرَ العينِ منشرحًا
وإن متُّ، ما حزني على الدهرِ يُجديِني
وهكذا تمر الحياة، قطارٌ يجري سريعًا لا يتوقف عند أية محطة، وتختال عنفوانًا وشموخًا في شتى العصور، لا تُكلف ذاتها بالذين يعيشون لها، أو يسأمون منها، أو يشكون طولها أو قِصرها ومعاناتها… فهي باقية ما شاء الله لها أن تبقى.



