المقالات

التاريخ… مرآة الحضارة وعقل الشعوب

التاريخ ليس أوراقًا قديمةً تُطوى، ولا أحداثًا منسيةً في بطون الكتب، بل هو الذاكرة الجمعية للأمم، ومرآة الحضارة، والعقل الذي يمنح الشعوب وعيها بذاتها. هو المدرسة الكبرى للحياة، حيث تُصاغ الدروس من تجارب السابقين، وتُستخلص العبر من انتصاراتهم وانكساراتهم.

من يقرأ التاريخ بوعي يدرك أن الحضارات لم تنهَر بفعل الغزو الخارجي وحده، بل حين انهارت من الداخل؛ حين ساد الجهل، واستفحل التعصّب، وتغلب الجمود والتطرف على نور العقل والإيمان. وعندها كان الانهيار والزوال نتيجة حتمية. وعلى العكس، فإن نهضة الأمم لم تُبنَ إلا حين أعلت من شأن الفكر الوسطي المستنير، وجعلت من العلم والعدل والإبداع والتسامح أسسًا لنهضتها.

التاريخ ليس علمًا جامدًا، بل فلسفة حياة، يكشف لنا أن القوة بلا عدالة زائلة، وأن الصراع الداخلي على الهوامش يُفقد الأمة تماسكها قبل أن يلمسها عدو. وهو يُبين أن النهوض فعل إرادة ووعي، وأن البناء يبدأ من تحرير العقول من الخرافة، والانفتاح على المنطق، والتمسك بالقيم الإنسانية الجامعة.

إن من ينكر التاريخ، يقطع جذوره ويعيش حاضرًا بلا هوية، ومستقبلًا بلا ملامح. أما من يستضيء به، فإنه يمتلك البوصلة التي تهديه إلى وعيٍ أعمق، وسلامٍ أرسخ، وبناءٍ أصلب. فالتاريخ هو المرآة التي تعكس صورة الحضارة، وهو العقل الذي يحفظ للشعوب كرامتها، ويمنحها القدرة على صناعة الغد بأقل أخطاء، وبأكثر حكمة.

فالتاريخ ليس مجرد مرآة تعكس ماضينا، بل هو ضوء يكشف طريق المستقبل. من أحسن قراءته امتلك البصيرة، ومن جهل صفحاته تاه في الظلام. هو عقل الشعوب الذي لا يشيخ، وصوت الحضارات الذي لا يصمت، ومفتاح النهضة الذي لا يصدأ.

إنه يعلّمنا أن الأمم لا تخلد بالقوة وحدها، بل بالوعي الذي يصونها، وبالعدل الذي يرفعها، وبالفكر الذي يحميها من السقوط. فليكن التاريخ لنا مدرسةً دائمة، ورفيقًا لا نفارقه، ووصيةً لا نهملها؛ لأنه في جوهره وعدٌ بأن من وعى دروس الأمس، صنع غدًا أكثر إشراقًا وأقل خطايا

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
    تتردّد هذه الآية الكريمة في خاطري كلما ختمت مقالة للبروفيسور، بل الحكيم، عايض الزهراني. وكأن هناك مرتبة علمية أسمى من كل الدرجات الأكاديمية ينبغي أن تُمنح لهذه الصفوة النادرة من مفكرينا ومثقفينا الذين بلغوا مقام الحكمة.

    إنني أرى أن تبادر إحدى جامعاتنا العريقة إلى وضع الأطر التنظيمية لمنح “درجة الحكيم”، بحيث يصبح لهذه النخبة العلمية والفكرية موقعها المرموق، وتقديرها المستحق، وتكريمها الذي يليق بمقامها. وليُنشأ “مجلس للحكمة” يضم هذه القامات ليكونوا شركاء فاعلين في صياغة الرؤية الاستشرافية لمستقبل المجتمع والوطن.

    فالاستثمار في هذه العقول التي بلغت مرتبة الحكمة ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية. أما إهمالها فليس سوى هدرٍ لأعظم ثروة بشرية يمكن للوطن أن يمتلكها
    احمد بن سعيد الحُريري

اترك رداً على احمد بن سعيد الحُريري إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى