المقالات

الشرقيّة…حيٌّ يسكن الذاكرة (8-8)

وجوه المكان… وجيرةٌ تصنع التاريخ
النص (2/2)

تتّسع الدائرة، فتتكامل الوجوه، ويغدو الحيّ كتابًا حيًّا تُقرأ صفحاته بيتًا بيتًا، واسمًا اسمًا؛ كأنّ الذاكرة تمشي على أقدام أهلها، وتستعيد ذاتها في نتفاصيلهم. تنمو الشرقيّة بالناس، ويكبر معناها كلّما ازداد عدد القلوب التي سكنتها، فتتحوّل البيوت إلى شواهد وفاء، والوجوه إلى علامات نبيلة، والأسماء إلى مفاتيح للحنين والاعتبار.

تحضر في أعالي الحي عائلاتٌ عدة من وادي الدواسر، يتقدّمها سلطان الدوسري؛ رجل الوقار والسمت الهادئ، ممن تُقرأ المروءة في ملامحه قبل كلماته، ومعه أبناؤه أحمد وخالد وعبد الله، وناصر صاحب مكتب العقار وفهد وغيرهم ممّن بقيت أسماؤهم منقوشة في القلب وإن خانت الذاكرة بعض التفصيل. يستقرّ حضورهم بهدوء يشبه ثبات الجبل، ويترك أثره دون صخب أو ادّعاء.

ترتفع في أعالي الحارة، حيّ بالحارث، بيوتٌ بأسماءٍ راسخة، كأنها أعمدة ذاكرة لا تميل: محماس الحارثي، وذعار بن محسن، وفراج، ودغيليب، وطويرش، وصنات، وزياد، وابني جمل، ومحمد بن سفر .
صاحب مستوصف سمران ويجاورهم عبد الله بن زبن البقمي، وسعيد الشهراني، وضفيدع مؤذّن المسجد بصوته النديّ الذي يوقظ الفجر في القلوب قبل الأسماع؛ فتقوم بيوتهم على الكرم والصلاة، ولا يُذكر أهلها إلا مقرونين بصفاء السريرة وطيب السيرة.

يمتدّ على شارع عكاظ نسيجٌ من البيوت التي حفظها المكان كما تُحفظ القصائد في صدور الرواة:
ابن سعدي، مبارك وإخوته، واللواء سعدي، والعمداء أحمد وإبراهيم وطلال، وابن شبلان القحطاني وأبناؤه يحيى وسعيد واللواء حسن، وبيت السيد المهناوابنائه الدكتوران عدنان وفتوان ومختار وبيت زيد الغالبي وابنه المخرج صالح، وابن هشبل، والأفندي، والداوود، والخويطر، والمضيان، والمهيني، والغنّام، والمهيزع. أسماءٌ تُنادى في الأزقّة كما تُنادى الألفة، وتمنح الشارع روحه، وتُبقي نبضه حيًّا في الذاكرة.

تتوزّع خلف الدكاكين المتلاصقة قرب البازان — مورد الماء ونقطة الحياة — بيوت آل عابد، وبيت سعد العلوي وولديه العميدين أحمد وسعود، وبيت رجل المروءة علي بن دخيل الله الزهراني، صاحب اليد البيضاء والسيرة الحسنة، وأبنائه العمداء محمد ومنصور وخالد، والأستاذين عمر وتركي، وبيت السيد الخضري وابنه الدكتور خالد الإعلامي المرموق، وسعيد الغامدي. هناك، تمضي الحياة على مهل؛ يسبق السلام السؤال، وتسبق الابتسامة الكلام، وتبقى الجيرة نقيّة لا تعرف التكلّف.

تقف في الواجهة بيوت أهل البيّاشة كقلبٍ مفتوح على العابرين: عم علي والد العميد محمد وعبد الله، وبجواره بيت قريبه فائز، وبيت الممرّض الخلوق قاسم البعداني صاحب القلب الرحيم، وبيت الشيخ عبد الله القبّاس إمام جامع البيّاشة، وبيت الشريف شرف والشريف فارس وبيت دبيس، وبيت ومقهى فهدالخريجي،حامل بيرق الملك عبدالعزيز وابنه الممثل عبدالرحمن وبيوت القحاطين، وبيت والد أحمد وصالح وسامي الشافي، وبيت العرينان وابنه الدكتور حمد، وبيت العيسى وتتشكّل هناك واجهة الحي، ونقطة التقاء الوجوه والحكايات.

يتجلّى في غرب الحي ووسطه حضورٌ نجديّ وقصيميّ بوقارٍ خاص، يرسم توازنًا بديعًا بين الحزم والمودّة: السميري (سعد واللواء عبد المحسن) وأبناؤهم أحمد وكيل المحافظة، ومحمد وفيصل، وبيت عبد الرحمن وعلي الباز وأبناؤهم محمد وناصر، وسعد الشقيحي وابنه عبد الرحمن المعلّم التربوي،وبيت الشيخ زامل الزامل الذي ارتبط اسمه بالحضور الوقور والسمعة الطيبة في الحي، وامتد أثر الأسرة في المجال العلمي عبر ابنه الدكتور عبدالرحمن
وسعيد عرب
وبيت الخراشي وابنه خالد
وعبداللطيف ال الشيخ ، وعبد العزيز العمران وأبناؤه سعود ومحمد وهشام، والشويمان، والرميزان، والصيخان، والعرفج، وبيوت (الخثلان ) الحنيوي وأبنائهم من أصحاب المناصب الرفيعة، وفي مقدّمتهم اللواء يوسف، وبيت الدخيل، والغشيان وابنه اللواء عبد الله، وبيت الزايدي وأبناؤه إبراهيم وخالد ويوسف، والسويلم، والناصر، وبيت العودة، وسويلم العتيبي، ومحمد الشقحي، والطاسان، والسنيدي، والنشمي، والخليفي، وبيت محمد وعبد الرحمن العياف. تتجاور بيوتهم كسطور كتابٍ واحد، فتتشكل من اجتماعها هالة الهيبة والرزانة والاتزان.

تُكمل في الجهة الأخرى بيوتٌ ملامح المشهد الوجداني: بيت مرزوق التركي الفريق في الحرس الملكي، وابناؤه صالح وتركي وعبدالله وأحمد وبيت عمر المقذلي صاحب المخبز، وبيت الرجل الخلوق مرزوق المقذلي وأبنائه نايف وطلال وفهد، وجميل الطايفي، وعلي الحمياني ودكانه،للأدوات الكهربائية والسباكة والمسيحل،وتحت داره مكتبه العقاري وبريكان الفرج، والضويحي ومطبخه الشهير، والباهلي، والعمري، والغذامي، ويحيى العسيري، والقحطاني، وعبد الله الطلحي، وعبد المحسن أبو زيد، وبيت اللحياني، وبيت العقيد جابر القرني وظافر القرني، وبيت العصيمي أبو مناور.

يقف في قلب المشهد أبو عصية الحمياني، عمدة الحي؛ فيجمع الوقار والبشاشة، ويحلّ العقد بصبر، ويجمع القلوب على كلمة سواء، فيغدو حضوره مظلّة طمأنينة، ومرجعًا اجتماعيًا يطمئن إليه الجميع.

لا يعرف أهل الشرقيّة معنى الغربة؛ فتتساند البيوت كما تتساند الأشجار الخارجة من تربةٍ واحدة. وتُقام الأفراح ظهرًا، وتصل الدعوة قبل النداء، ويغدو الجار سبيل الأمان قبل أن يكون اسمًا على باب. وتُغلق الشوارع في الأعراس، وتُنصب الخيام، ويأتي الجيران استجابةً لنداء القلب لا لنداء الصوت.

وتتجاور الأرواح بعد العصر حتى المغيب قرب الجدران؛ فتُصبّ القهوة، وتُفرش الحكايات، وتنعقد المجالس، فيما نندسّ نحن الصغار بين الركب، نلتقط الحكمة، ونحفظ الضحكة، ونفتتن بسحر الحكاية القديمة.

وتبقى الشرقيّة شاهدًا لا يشيخ؛ تمرّ الأعوام ولا تنطفئ روحها فينا. ويتحوّل المكان، حين تعمّده القلوب بالوفاء، من جغرافيا تُهجر إلى وطنٍ داخليّ لا يطويه الزمن، ولا يجرؤ النسيان على مسّه.
وكيف يُنسى حيٌّ صيغت ملامحه من ضوء القلوب
قبل طين البيوت

فاصلة

تخون الذاكرةُ أحيانًا بعضَ التفصيل، ويغيب ذكرُ قاماتٍ سامقة من أهل الحي، فليجدوا لي العذر؛ إذ يستقرّ حضورهم بهدوءٍ يشبه ثبات الجبل، ويترك أثره دون صخبٍ أو ادّعاء.

فاصلة

تخون الذاكرةُ أحيانًا بعضَ التفصيل، ويغيب ذكرُ قاماتٍ سامقة من أهل الحي، فليجدوا لي العذر؛ إذ يستقرّ حضورهم بهدوءٍ يشبه ثبات الجبل، ويترك أثره دون صخبٍ أو ادّعاء.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى