تدور حركة الصراع البشري في تقاطعاته وتفاعلاته مع الحقائق الموضوعية، عبر مسارب التاريخ الثابت والمتجدد، لتبقى العناصر الأصيلة عصيّة على الفناء والتغيير والتبديل. بيد أنّنا بحاجة إلى من يكتشفها ويبثّ فيها روح شِرّة الظهور والنشاط والحركة من جديد، نحو البناء الحضاري الفاعل والمؤثر في الداخل والمحيط والخارج. وهذا بدوره يدعونا إلى البحث عن عناصر الأصالة في جينات الوجدان والعقل الجمعي العربي المعاصر، الذي سيبقى وفيًّا لمبادئه وتاريخه وأصالته متى كان محافظًا على هذا التراث الأصيل المتجذّر في العقول والنفوس.
وهذا ما تؤكده الدراسات الأنثروبولوجية؛ إذ إن العنصر العربي الذي نشأ على الحرية واحترام مبادئ الأخلاق الفاضلة، وتأصّلت فيه جينات الجذر العربي الأصيل، حيث ترعرع في أجواء حرية الصحراء الممتدة وسعتها، قد حُبي (بفضل الله عز وجل) نصيبًا وافرًا من أخلاق الوفاء بالعهود، والقوة، والتنكر للعبودية والخسف، والكرم، والشهامة، والشجاعة، وتحمل مشاق الحياة بين جنبات الصحراء القاحلة. ولهذا يظل (بإذن الله) وفيًّا لجذره وأصله وفصله، عبر ربط حاضر العرب بماضيهم العريق، متى حافظ الأحفاد على تراث الأجداد بأمانة وإخلاص وتفانٍ ومثابرة، وبقوا على العهد وأوفوا بالوعد. وصدق الله القائل في كتابه العزيز حين اختار الرسول والنبي الخاتم محمدًا ﷺ من العرب:
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124].
لقد نشأت عبر التاريخ حركة فكرية، مزيج من السياسة والعقيدة والعنصرية، حاولت النيل من العرب وما وهبهم الله من كرامة حمل رسالة الإسلام إلى العالم. وبعد فترات طويلة كانوا فيها على هامش التاريخ، تسيدوا العالم (بفضل الله) بتمسكهم بالإسلام، حتى ظهرت حركة ناقمة عليهم عُرفت بـ الشعوبية، وهي باختصار عداوة العرب، التي أبغضت ما وهبهم الله من اختيار رسول الإسلام منهم، فحقدوا عليهم وتولدت الكراهية تجاههم وما حملوا من الدعوة. ومن ثم أبرموا المكائد لمحاربة الإسلام باسم الإسلام.
وقبيل هيمنة الاستعمار، ظهرت دعوات أخرى صريحة لسلخ العرب من الإسلام تحت شعارات مثل: الوحدة والقومية والعلمانية والليبرالية المادية. وكما قال الشاعر القروي:
هبوني عيدًا يجعل العرب أمةً
وسيروا بجثماني على ملة برهم
سلام على كفر يوحّد بيننا
وأهلاً وسهلاً بعدها بجهنم
وقد أخطأ العلامة ابن خلدون (رحمه الله) حين وصف العرب بالهمجية والرعونة بقوله في مقدمته:
“إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب”
وهذا منزلق كبير من عالم وفيلسوف معتبر. إذ يتناسى (رحمه الله) أن الجزيرة العربية كانت مهد ست رسالات سماوية: رسالة هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وإسماعيل، ومحمد ﷺ. كما قامت في ربوعها حضارات إنسانية رائدة مثل: ثمود، وعاد، ودلمون، والأنباط، ومملكة معين، وكِندة، ودومة الجندل.
وقد رد بعض مفسري التاريخ، ومنهم المستشرق برنارد لويس، بأن مقولة ابن خلدون تنطبق على فئة محددة من العرب وهم البدو الرحّل، وهذه خاصية تعمّ جميع سكان البادية في سائر الأمم، وليست خاصة بالعرب. والقرآن الكريم ذكر الأعراب بوصفهم سكان البادية، فقال تعالى عن يوسف عليه السلام:
﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ﴾ [يوسف: 100].
ومن الثابت أن العرب أمة ناهضة وعظيمة ما أخطأتهم عدة خصال هي :
1. التعصب والعنصرية والبخل والأنانية والنرجسية وحب الذات، والكبر والخيلاء والفخر والحسد والحقد.
2. انتحال مذاهب التشدد: التكفير، الإرهاب، التزمّت، التحزّب، التصنيف، والانغلاق الفكري.
3. الانحلال: الإباحية، التبرج، الاختلاط، شرب الخمور.
4. التأثر بالعلمانية والليبرالية التي تمسخ الرجولة والأنفة والكرامة.
متى خلصت القبيلة العربية المعاصرة من هذه المثبطات، بقيت مخزونًا أصيلًا للأمن والاستقرار والعمران البشري بعيدًا عن الثورات والكوارث. وهذا ما رأيناه واقعًا حيًا يبشّر بالخير في سوريا العربية الجديدة ذات الأغلبية السنية، حيث أثبت أبناء القبائل العربية أصالتهم وشجاعتهم في حماية دولتهم الجديدة، وهم يتمنطقون بالسلاح وتزين رؤوسهم العمائم العربية الأصيلة.
وهذا يشير إلى أهمية القبيلة العربية السورية المعاصرة في حماية سوريا ودعم دولتها بعناصر الأصالة والقوة والعزة والوحدة، وإجهاض محاولات فلول النظام البائد. ومن الخطأ وصف هذه القبائل بالبدو، لأنها تسكن المدن والقرى، ونال أبناؤها التعليم العالي، وجمعت بين الأصالة والمعاصرة.
ويبقى الثابت والمتجدد في القبيلة العربية منهجًا للوعي العربي المسلم، مما كان له أثر مؤثر في العقل الجمعي العربي. وهي ظاهرة تستحق الفحص والبحث العلمي من علماء الشريعة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن، إذ تبشّر بدورة حضارية عربية جديدة، تُعيد للعرب دورهم الحضاري المفقود، وتبعثه من جديد.






