منذ أن خُلق الإنسان وهو يواجه مفترق الطرق، يبحث عن سبيلٍ آمن، ويُدرك أن عقله مهما كان متقدًا فلن يحيط وحده بأسرار الغد. ومن هنا جاءت المشورة، بوصفها سفينة النجاة، ومرآةً صافية يرى فيها المرء زوايا ربما غابت عن ناظريه.
المشورة ليست مجرد تبادل كلمات، بل هي فن الإصغاء وتلاقح العقول، وتقارب الأفكار
وهي لحظة نقاء يتجرد فيها الإنسان من أنانيته ليُدرك أن الحكمة لا تحتكرها نفس واحدة، وإنما تُبنى بتراكم الآراء وتعدد التجارب. هي ساحة فكرية رحبة، يلتقي فيها العقل بالعقل، والضمير بالضمير، لتُصاغ منها قرارات أكثر رسوخًا وأقل عُرضة للزلل.
لقد علّمنا التاريخ أن المشورة هي سرّ العظمة في كل نهضة. فالخلفاء الراشدون جعلوها ركيزة للحكم، يتداولون الرأي مع أصحاب البصيرة قبل إصدار القرار. ورسول الله ﷺ نفسه، وهو المؤيد بالوحي، لم يستغنِ عن آراء أصحابه في معارك فاصلة كأُحد والخندق، وفي مواضع اخرى
فكان في ذلك درس خالد بأن القائد الحقّ لا يُقصي رأيًا، ولا يعلو بتدبيره فوق حكمة الجماعة.
ولم يكن الحكماء أقل شأنًا في الاحتفاء بالمشورة، فقد قال أحدهم: (ما خاب من استشار، ولا ندم من استخار)وهي كلمة تختصر فلسفة الحياة، فالمستشير يفتح لنفسه أبوابًا من الحكمة لم يكن ليراها بمفرده، بينما المستبد برأيه قد يقع في خطأ يجر وراءه ندمًا طويلًا.
وفي حياتنا اليومية، تظهر المشورة في صور متعددة:
حتى في الأسرة، حين يجلس الأبوان مع أبنائهما ليُشركوهم في اختيار مسار أو اتخاذ قرار، يشعر الأبناء بأنهم شركاء لا تابعون.
وفي العمل،حين يجتمع الفريق ليصنع رؤية مشتركة، يتولد الإبداع من تلاقح الأفكار، لا من هيمنة فرد واحد.
وفي المجتمع، حين تُتاح للناس فرصة التعبير والمشاركة في القرار العام، تترسخ العدالة وتُصان الحقوق.
لكن، رغم ما تحمله المشورة من نور، إلا أن لها شروطًا حتى تؤتي ثمارها. فليست كل المشورات صائبة إذا غابت عنها النية الصادقة، أو سادها الهوى والمجاملة. المشورة الحقة هي التي تقوم على الإخلاص، والصدق، والأمانة، وتُقدّم المصلحة العامة على الأهواء الخاصة.
إن أجمل ما في المشورة أنها تُحررنا من وهم الكمال، وتُعلمنا التواضع أمام عقول الآخرين. فهي لا تُنقص من قيمة الفرد، بل تزيده وقارًا، وتجعله أكثر حكمة في عيون من حوله. فالقوي ليس من ينفرد برأيه، بل من يملك الشجاعة ليسمع، والجرأة ليُعيد النظر، والذكاء ليختار أصلح ما سمع.
المشورة، في جوهرها، مدرسة مفتوحة لتعلّم الحياة: وتُهذب عقولنا، وتُزكّي قلوبنا، وتُرشد خطواتنا. إنها دعوة للإنسان ألا يمشي وحده في دروب المجهول، بل أن يجعل من العقول حوله قناديل تُنير له الطريق. المستقيم






