المقالات

اللصوصية المفلسة

عندما يتجرد الإنسان من لبوس البشرية، وينحاز بطبعه إلى مشاكلة الحيوانية، يظهر جلياً تناسب طردي عجيب بين الجينات المشتركة بين الجنس البشري والحيواني، مما يمثل انتكاسة مريعة للإنسان. ويزداد الأمر غرابة وعجباً حين يتلوث المسلم خصوصاً بمثل هذه النواقض والنقائض والموبقات، ويصعب جداً حصر تلك المشاكلة واستقرائها بين الجنسين (البشري والحيواني). وحسبنا أن نركز على مسوح ومظاهر اللصوصية في المشاكلة بين الثعالب الحيوانية والبشرية، حين يتسم الجنس البشري بالختل والخداع، وبخبث وسابق إصرار، من خلال التحايل على سرقة أموال الآخرين تحت ذرائع شتى مثل طلب القرض الحسن العاجل الملح لظروف قاهرة، أو التعرض لخسارة فادحة، أو الوقوع ضحية السرقة والاحتيال، أو الحلول تحت ذرائع واهية كجائحة عائلية محزنة، فيعرض نفسه بمسكنة وخنوع طالباً المساعدة العاجلة مقروناً بالإيمان المغلظة بردها خلال أيام أو ساعات محدودة، مما يضفي على وعوده (بادي الرأي) مصداقية بريئة تستحيل مع مرور الأيام والشهور والسنين إلى أحبولية ثعلبية ماكرة، والتي تسوق حتماً إلى نزع الثقة بين الناس، وشيوع سوء الظن بينهم، والانكفاء على الذات، وانحسار صنائع المعروف بينهم.
والمصيبة الماحقة حين يتصور أولئك اللصوص أنهم متميزون بالشطارة والذكاء، والمكر والخداع، وما علموا أنهم يقعون في سوء أعمالهم، ولاسيما يوم الحساب والعقاب حين يحل عليهم وصف الإفلاس حقيقة لا فرار منها كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم حين خاطب أصحابه (رضي الله عنهم) بقوله: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار) أخرجه مسلم. وهذا الوعيد الشديد مما يتناساه اللصوص المفلسون ولا يخطر لهم على بال، بقدر ما يعيشون على وهم الشطارة الشيطانية، حتى يلاقوا يومهم المعدود والمحدود. وثمة وجه آخر يمكن تكييف صنيع أولئك اللصوص ضمن صنيعهم، انتزاعاً من قصة تلك المرأة المخزومية القرشية التي كانت تستعير المتاع بمكة وتجحده، وأهم أمرها قريشاً، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة (رضي الله عنه): أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) متفق عليه. فهذه المقارنة بين ثعالب عصرنا وبين المخزومية متقاربة جداً من وجوه عدة، والقاسم المشترك بينهم الكذب وخلف الوعد والتحايل على أكل أموال الناس بالكذب والبهتان.

فمتى تتمعر وجوه أولئك اللصوص وتعرق جباههم من جناية سرقاتهم وخلتهم وخداعهم؟ والتي يئن منها ضحاياهم من الكرام والكريمات، والتي ذهبت أموالهم سدى دون اعتذار أو حتى بوصية سداد لحقوق ما عليهم عند موتهم.

ومن عجيب صنع الله فيهم، أن هؤلاء اللصوص تحق عليهم عقوبة الله بنزع البركة من أموالهم وحيواتهم ويغدوا مفلسين خاسرين .

ونخلص من هذا كله إلى الحقائق التالية:
١- أن هؤلاء اللصوص عديمو الشرف والمروءة، وسيبقون أسرى لهذا الضعف البشري، حين استمرؤوا هذا السلوك المشين، وأضحى جزءاً من نسيج حياتهم لا يحول ولا يزول.
٢- من الضرورة عدم إهمال كتابة الدين أو الاتكاء على حسن الظن أو الثقة المفرطة، وفي التنزيل الحكيم يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) سورة البقرة آية ٢٨٢.
٣- الحذر كل الحذر من هذا الصنف السارق والمخاتل مهما قدموا من أعذار ومبررات معسولة.
٤- على أهل العلم والدعوة والتربية والتعليم لفت الأنظار إلى حقائق الإسلام الكبرى، بربط الأخلاق بالإيمان والعبادة والمعاملات، والتحذير من النفاق العملي الذي يتسلل إلى السلوك اليومي للإنسان من غير استئذان.

يا أيها اللص المخادع في الدُنيا
أصبحت معروق الخزانة والخنا

لم ترتدع يوماً على طول المدى
وبقيت لصاً قابعاً وسط الشنا

تنسى إذا جُمع الخلائق منتهى
عند الإله بميعاد دنا

فتصير مفلسَ أوبةٍ عند القضاء
تُلقى حطاماً في جهنم والعنا

المدينة المنورة.

أ.د. غازي غزاي العارضي

استاذ الدعوة والثقافة بجامعة الاسلامية وجامعة طيبة سابقا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جزاك الله خيراً يا دكتور غازي على هذه الكلمات النيرات
    وهي من شخصكم الكريم فقد كانت تلامس موضوعاً مهماً يعاني منه من يريد الخير وفي نفسه الخير فيقع في فخ هذه اللصوص الذين يميلون الايمان اوهم كاذبون
    وما مثلهم إلا كمثل الشيطان الرجيم الذي أقسم لأبونا آدم عليه السلام أنه لمن الناصحين
    لقد سعى هؤلاء الخبثاء الماكرين إلى قطع أواصر فعل الخير بين الناس وساهموا في قطع القرض الحسن للمحتاجين بأفعالهم المشينة فحسبنا الله ونعم الوكيل

اترك رداً على الدكتور/ عبدالله بن حسن آل سرور إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى