المقالات

إدوارد سعيد : أكثر من عقدين على الرحيل

إبان بعثتي في مرحلة الماجستير أبهرتني كتابات إدوارد سعيد العربي المسيحي المقدسي المولد، أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن، صاحب كتاب الاستشراق، الذي يعدّ بكل المقاييس ثورة في أدب النقد. وفي الذكرى الرابعة لوفاة المفكر الذي غاب جسده، ولم تغب -عن محاضرات وتحليل الغربيين- كتاباته وكتبه وفكره، كان العالم حينها مختلفًا، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد اجتاحت العالم كما هي اليوم. حينها، كتبت مقالًا باللغة الإنجليزية عمّا جاء في فكر إدوارد عن الاستشراق، وتحديدًا النظرة الغربية المجحفة للعالم الإسلامي من زاوية ضيقة وفوقية ومختزلة لعالم ثري وعميق، لكنه مختلف عن العالم الغربي في مكنوناته وتوجهاته. لقد قُدّم العالم الإسلامي والعربي في الإعلام والفكر الغربي بصورة جعله عرضة للنقد المجحف.
وأثناء بحثي اليوم في صندوق الذكريات، وجدت المقال وكأنني بالأمس كتبته، وكأن السنين التي مرّت يومٌ أو بعض يوم؛ فمعظم قوى العالم الغربي لا تزال حتى اليوم تحمل تلك النظرة للشرق الأوسط التي حاول المفكّر الراحل مواجهتها .
لقد استطاع إدوارد سعيد عبر كتاباته :”الاستشراق” ثم ” الإسلام والغرب والإعلام في مواجهة مباشرة” تسليط الضوء على أهم الدوافع التاريخية للحرب الباردة المعلنة من الإعلام الغربي و مؤسساته على الإسلام.
ووثق في معظم كتاباته تاريخ القضية الفلسطينية بجميع أبعادها. كما حوت مقالاته وكتبه الأحداث الفعلية التي تلت ظروف معاهدات السلام كأوسلو وغيرها، ففضح زيف نوايا الإسرائيليين بالاعتراف بماضٍ فلسطيني، وبحقّ العودة للاجئين، لقد كان إدوارد سعيد من أبرز المدافعين عن قضية الفلسطينيين ليس في فلسطين فحسب، بل في الولايات المتحدة وسائر دول المهجر، كما دافع عن كافة القضايا العربية وقضايا انتمائهم. كابن محبّ إذ سكنت في قلبه دون أن يسكنها. و بالرغم من ذلك التاريخ الحافل بالنضال الفكري كلّه، ظلّت كتابات وأفكار سعيد التي تخصّ المشروع الإنساني العربي حبيسة الأرفف، لم تُقرأ بشكل جادّ في العالم العربي، ولم تجد لها إشارة على الصعيد التربوي أو التعليمي رغم دورها في توثيق كثير من الحقائق حول القضية الفلسطينية التي قد تعين على فهم الواقع.
إنّ لغة إدوارد سعيد قد تكون صعبة على جيل الشباب حاليًا، إذ تراه يستفيض ويسهب أحيانًا فيما يكتب حول فلسفة العلاقة بين السيطرة الغربية و الاستعمار وضحاياهما في العالم العربي. إنّ وعيه بأطماع القوى الغربية في الشرق الأوسط، تتطلّب وعيًا منّا لنقرأ المشهد بشكل سليم؛ فلم يكتفِ إدوارد سعيد بعرض سبب أطماع المستعمرين، بل قدّم بدائل لاستعادة الأمل في العيش الكريم من دون السماح لغزوهم الفكري والمعرفي بالتغلغل إلى عقل و وجدان جيل الشباب.
لا مجال للشك أن أعمال المفكر إدوارد سعيد موروث عربي حضاري شرق أوسطي يستحقّ أن يسلط عليه الضوء، بل ويدرسّ كإنتاج أدبي، علمًا أنّ الكثير منه تُرجم الى أكثر من عشر لغات. وقد وجدت معالي الدكتور بكري عساس وهو كاتب جريدة مكة المبدع، أفرد مقالًا عن المفكر العربي الأشهر في مطلع هذا الشهر. والذي رغم غيابه ظلّ فكره حيًّا، وكتاباته يستشهد بها في أي حديث أو بحث علمي عن الاستشراق وتبعاته وإسقاطاته.
إنّ الحديث عن مفكّر بحجم إدوارد سعيد بعد أكثر من عقدين على رحيله يعني أنّ الأثر يبقى، وإن غاب الجسد، وأن ثمة أقلام يتجاوز تأثيرها قاعات المحاضرات و صفحات الكتب ، ولاشك أنّ إدوارد سعيد من أبرزهم.

أ.د. أماني خلف الغامدي

جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى