«زاوية منفرجة»
لم أعرف أنني “مثقّف” إلا بعد أن تجاوزت الثلاثين، وكان ذلك بشهادة من آخرين، سمعت منهم كلامًا من نوع: “أنت كمثقف عليك أن…”، أو “نحن كمثقفين يجب أن نقوم بكذا وكذا…”.
وبعد أن ترددت هذه العبارات مرارًا على ألسنة أشخاص جالستهم، أدركت أنني انتميت إلى قبيلة المثقفين، ثم أدركت لاحقًا أن هذا الانتماء ليس مدعاةً للتفاخر والتباهي، لأن تلك القبيلة ملاذٌ لمن يدّعون عراقة النسب الثقافي، وللمنبوذين والمستهبلين.
بالطبع، ليس كل من انتسب إلى هذه القبيلة من تلك الشاكلة، ففيها “عيال قبيلة” أصليون ومتمكنون من أدواتهم، خاصة بعد تخفيف شروط الانتماء إليها.
فقبل نحو ربع قرن تقريبًا، كان الشرط الأساسي للانتماء إلى قبيلة المثقفين هو الحصول على الشهادة الجامعية، وشيئًا فشيئًا اكتشف الناس أن هناك من يستحقون عضوية القبيلة رغم أنهم لا يحملون شهادات “مبروزة” من أي نوع، ثم صارت شروط العضوية أكثر مرونة بعد أن صارت الجامعات تُنتج أميين بمرتبة الشرف، بينما برز أناس لم يكن حظهم من التعليم النظامي كبيرًا، ولكنهم علّموا وثقّفوا أنفسهم بالمثابرة والمكابدة وطلب المعارف في مظانها.
فكان حظ هذه الفئة من الثقافة عظيمًا، لأنهم أفلتوا من الببغاوية التي تغرسها المناهج المدرسية!
وبصراحة، فإنني لا أعرف كيف ومتى يحقّ للإنسان أن ينال لقب “مثقّف”، ولا ما الجهة المخوّلة بمنح هذا اللقب الفخم، وإذا اعتبرني البعض مثقفًا فـ”بارك الله فيهم”، ولكنني — وبصفة عامة — لم أعد أكترث بالانتماء القبلي بالمعنى العريض للعبارة.
بل لم تكن مجالسة “المثقفين” تستهويني على نحو خاص، لأنني نشأت في بيئةٍ كان معظم أفرادها من الأميين أو الذين نالوا قدرًا بسيطًا من التعليم، ومع هذا لم تضعف صلتي بهم على مرّ السنين، ذلك لأنهم يتمتعون بأصالةٍ لم أجدها عند كثير من “المثقفين”، ويحترمون الإنسان لكونه إنسانًا، وليس لأنه صاحب لقب أو منصب أو ديوان شعر أو كتاب.
هم يتحدثون على سجيتهم، فتخرج من أفواههم حكم السنين والتجارب.
وكنت في بداية حياتي العملية أتخذ من دكان حائكٍ — أي خيّاطٍ كان صديقًا لي — مقرًّا ثابتًا في الأمسيات، أجلس مع نفرٍ متجانس من الأصدقاء أمام “المحل” نتسامر إلى ساعاتٍ متأخرة، ثم ننصرف إلى بيوتنا.
وكان من بين أفراد “شِلّة الدكان” بائعُ ثلجٍ — وهو صاحب المحل الذي كتبت عنه مرارًا وكان يحمل اسم “ثلاجة البشرية للثلج البارد” — وقلت له أكثر من مرة إن تلك التسمية توحي بأنه يدير مشرحةً لحفظ الجثث، لكنه رماني بالعمالة لجيرانه من باعة الثلج غير البارد!
كما كان في الشلّة ثلاثةٌ من فنيّي صناعة الأحذية الذين كانوا زملاء دراسة في المرحلة الثانوية، ثم اختاروا التخصص في مجال الأحذية (وأصبحوا لاحقًا من ملاك المصانع ومحلات بيع الأحذية، ويلعبون بالفلوس).
وكان زملائي “المثقفون” يعجبون — بل ويتضايقون — لأنني أخالط أشخاصًا “دون مستواي”.
وكان ذلك يُغضبني، لأنهم كانوا يقصدون أن أصدقائي أولئك “دون مستواهم” هم.
وخلال الترتيبات لزواجي، كان أصدقائي المثقفون يجلسون معي لممارسة التنظير حول أصل “الآه” في المواويل وسيرة “غيفارا”، بينما كان أصدقائي الذين كانوا “دون مستواهم” يتولّون شراء مستلزمات حفل الزواج.
وصنع أصدقائي الجزمجية لعروسي حذاءً توارثته عشرات العرائس لجماله وإتقان صنعه، وأهداني صديقي الخياط عدة جلابيب (لأن العريس في السودان لا بد أن يرتدي الجلابيب خلال طقوسٍ معينة يتم خلالها طمره بالزيوت العطرية والحناء).
أما صاحب محل الثلج، الذي لم يستمع إلى نصائحنا بأن اسم محله “ثلاجة البشرية للثلج البارد” يطفّش الزبائن لأنهم سيعتقدون أنه ثلاجةٌ لحفظ الموتى، فقد تبرّع بأطنانٍ من الثلج للمدعوين الذين تناولوا العشاء على حسابي، وأبادوا مدخراتي خلال ساعتين!!






مقال رائع كعادة أبي الجعافر في تناوله قضايا مهمة في حياتنا وثقافتنا من زاويته المنفرجة بأسلوبه الساخر وعباراته ذات الدلات الموحية .