المقالات

يلا بينا… لزمنٍ ثانٍ

يبدأ المشهد من مجلس والدي حفظه الله. يستمع إلى حديث الصغار فيكتشف أول الإشارات قبل أن يفتح المصحف. يتكلم الأطفال بالإنجليزية بثبات، وحين ينتقلون إلى العربية تتكسّر الكلمات ويتوقف الكلام عند منتصف الجملة. بعدها يناول أحدهم آية قصيرة، فيتردد الصوت، ثم يعطي آخر نصًا بسيطًا لقراءته. يصغي إلى مخارج الحروف وترتيب الكلمات، فتضيع العلاقة بين سلامة النطق والمعنى حين يسألهم عن شرح جملة يسيرة. وعند أول مسألة فيها قسمة مطوّلة أو نسب مئوية أو أرقام عشرية، تتجه العيون إلى الآلة الحاسبة.
هكذا تُقاس الكفايات الحقيقية دون ورقة ولا شهادة: يتكشف أن عامًا دراسيًا كاملًا يُستهلك دون أن يضمن لغة راسخة، أو مهارة حساب، أو ثقة بالذات.

هذا المشهد يتكرر في أغلب البيوت، ويظهر بوضوح أكبر عندما يصل الطالب إلى الجامعة وهو متردد أمام نص قصير أو مسألة بسيطة. وفي المقابل رأيت معلمة مقيمة دخلت مدرسة عالمية بروح تؤمن بأن الطفل يبنى بالفهم لا بالحفظ. حاولت، ثم اصطدمت بسباق نحو إنهاء الوحدات ورفع الدرجات. بعد عام واحد رأت أبناءها بلا أثر يستحق ذلك الجهد، فاستقالت وسحبتهم إلى تعليم منزلي مقنّن يعتمد النموذج البريطاني: كفايات سنوية واضحة، اختبارات معيارية لا تخطئ، وقياس دقيق للإتقان. وجدت أثرًا أسرع وأوضح مما رأته في الصف.

بين هذا المشهد وذاك يظهر السؤال الحاسم: كيف يتغير العالم آلاف المرات في مئة عام، ويتغير يوم الإنسان نفسه مئات المرات، ويبقى الصف كما كان؟
طريقة واحدة عمرها قرن كامل: كتاب، تلقين، اختبار.
وقد كانت للاختبار هيبة تكشف الجهد. اليوم تحوّل إلى ملزمة مختصرة ومراجعة ليلية، ومعه خفت بُعده الحقيقي. صارت المدارس تخفف المحتوى حتى لا تخسر الطلاب، وارتفعت الدرجات دون أن ترتفع المهارة، وتكشف معادلة القبول الجامعي (٣٠٪ ثانوية – ٣٠٪ قدرات – ٤٠٪ تحصيلي) ما هو أعمق: المدرسة لم تعد تبني ما يريده المستقبل.

ومن هنا تضاعفت فاتورة التعليم: مدرسة أهلية أو عالمية، ومعلم خصوصي في البيت، ومراكز خارجية، ولا يزال الأثر محدودًا. ومع ذلك ظهرت خطوة وطنية مهمة: السعودية أقرت مساواة كاملة بين التعليم الحضوري والتعليم الإلكتروني في البرامج المعتمدة. جامعة الأمير سلطان خصصت يومًا كاملًا عن بعد ونجحت فيه، وانسجمت مع نماذج عالمية مثل Harvard وMIT. هذا كلّه فتح الباب لتخيل نموذج جديد.

عند هذا المفصل ينهض المسار التعليمي المرن.
هو مسار يعتمد ما هو موجود أصلًا: منصة وطنية، كتب إلكترونية، اختبارات معيارية، وإشراف مباشر ضمن منظومة تعليم وطنية. ويضع فوقها ما نفتقده: كفايات دقيقة لكل صف دراسي تُقاس بمعايير لا تخطئ، وتُعامل كعهد تعليمي يخرج منه الطالب وهو قادر على ما طُلب منه حقًا.

في هذا المسار يتقن الطالب:
– العربية قراءة وكتابة وخطابة وشعرًا وخطًا جميلًا
– تلاوة مستقيمة بإشراف متخصصين
– علومًا ورياضيات قائمة على الفهم والتحليل
– مهارات STEAM، برمجة، تصميم، بحث ونقاش
– فنونًا وإسعافات أولية
– الكفايات الرياضية النبوية: السباحة، الرماية، ركوب الخيل
– الرياضات الحديثة كالقدم والسلة والطائرة والفنون القتالية
وتُصقل مهارته الرياضية بوصفها هوية شخصية عامًا بعد عام، لا نشاطًا ثانويًا.
وترتفع اللياقة إلى مستوى الشرط لا النشاط. جسد قادر على الجري، والسباحة، والتحمل، وعقل يعرف قيمة الصحة، ويوم يرى فيه الطفل نسخة جديدة من نفسه أفضل من الأمس.

ثلاثة أيام أسبوعيًا ينتقل الطلاب إلى مراكز تعلم مجتمعية داخل الأحياء. معامل متطورة، ورش فنية، منصة نقاش، حلقات تلاوة، نوادٍ رياضية. هذه المراكز تُدار بأهل الحي: متقاعدون، آباء وأمهات، أجداد يحملون حكمة السنين، ومعلمون شباب. تُمنح للمتقاعدين فرصة دخل إضافي، وتعود لهم قيمتهم، ويعودون إلى صلب الدور الذي غاب سنوات.

ويموّل القطاع الخاص هذه المراكز عبر برامج الاستثمار الاجتماعي. عندها تتسع المنافسة:
– بطولات رياضية بين الأحياء والمدن
– مسابقات علمية وفنية مصوّرة
– منتخبات شابة تمثل المناطق
– فرص جامعية للمتفوقين رياضيًا وابتكاريًا
– مشاريع طلابية تنطلق إلى مسرعات الأعمال وتتحول إلى منشآت صغيرة

وهكذا تتولد فرص عمل جديدة، ويندمج قطاع واسع من الأمهات والمتقاعدين في نسيج اقتصادي واجتماعي لا يهمّش أحدًا.

وعند هذا الحد يصبح السؤال واضحًا:
لماذا ينجح هذا النموذج ولا تنجح المدرسة التقليدية؟
لأن المهارة هنا منهج لا نشاط، ولأن الوقت يتحول من شرح إلى تدريب، ولأن الحي يتحول إلى مساحة تعليم، ولأن المتقاعد يصبح شريكًا لا متفرجًا، ولأن القياس واضح، والكفايات محددة، والطالب يتحرك بمعيار واحد لا بعبء متفرق.

وتأتي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتمنح الفكرة معناها الكامل:
«لا تربوا أبناءكم على تربيتكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم.»
هذا المسار يقدم نموذجًا يناسب زمانهم دون أن يفقدهم لغتهم ولا جذورهم.

ينطلق التطبيق عبر تجربة وطنية عام 2026–2027 لعشرة آلاف طالب في خمس مدن. تُقاس العربية، والتلاوة، والعلوم، والرياضيات، واللياقة، والمهارات الرقمية، والنقاش، ورضا الأسر. ثم تُبنى الخطوات التالية على بيانات واضحة.

هذا المسار يمنح الطالب ما يحتاجه، ويمنح الأسرة ثقة كانت غائبة، ويمنح الحي روحه، ويمنح المتقاعدين دورًا، ويمنح الوطن جيلًا مستعدًا لزمنٍ آخر.

يلا بينا… لزمنٍ ثانٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى