ليس من السهل أن تتغير العادات الاجتماعية في فترة وجيزة، خاصة حين يتعلق الأمر بوسائل التنقل في مدينة نابضة بالحياة مثل الرياض، عاصمتنا الغالية، التي يقطنها اليوم أكثر من خمسة ملايين نسمة. ومع ذلك، شهدنا في السنوات الأخيرة مظهراً حضارياً يبعث على الفخر والاعتزاز: تنامي ثقافة استخدام النقل العام، سواء عبر الحافلات الحديثة أو الميترو الذي أصبح أحد معالم العاصمة الجديدة.
ففي طرقات الرياض، التي كانت حتى وقت قريب تعج بالسيارات الخاصة وتكتظ بالشوارع المزدحمة، باتت مشاهد الحافلات المجهزة بأحدث التقنيات والقطارات السريعة المنتظمة، جزءاً مألوفاً ومحبباً للناظرين. هذا التحول لم يكن مجرد تطور خدمي، بل هو انعكاس حقيقي لوعي مجتمعي متنامٍ بأهمية التخلي التدريجي عن الاعتماد الكامل على المركبات الخاصة، لصالح وسائل نقل عامة أكثر كفاءة.
إن ثقافة النقل العام ترمز اليوم إلى إدراك المجتمع السعودي، وخصوصاً أبناء الرياض، لمجموعة من القيم الحضارية المهمة. فمن جهة، يوفر النقل العام الوقت الثمين الذي كانت تهدره الساعات الطويلة في الازدحامات المرورية، ويخفف أعباء التكاليف الباهظة المرتبطة بالوقود والصيانة. ومن جهة أخرى، يسهم هذا التحول في تحسين جودة الحياة، عبر تخفيف الضغط على الطرق وتقليل الحوادث المرورية، مما يؤدي إلى حفظ الأرواح والممتلكات، ويبعث الطمأنينة في نفوس الجميع. ولعل ما يعزز هذا التحول الكبير، هو تماشيه مع رؤية المملكة 2030، التي جعلت من تحسين جودة الحياة أحد أهدافها الاستراتيجية، وسعت من خلالها إلى تطوير بنية تحتية متكاملة لوسائل النقل العام في المدن الكبرى، وعلى رأسها الرياض. فالرؤية الطموحة وضعت نصب أعينها تمكين المواطن والمقيم من الوصول إلى خدمات نقل آمنة وفعّالة، تعكس مستوى التطور الحضري، وتساهم في تقليل التلوث، وتدعم الاستدامة البيئية والاقتصادية. ومع تشغيل مشروع “مترو الرياض”، الذي يعدّ واحداً من أكبر مشاريع النقل العام في العالم، أصبح بإمكان سكان العاصمة التنقل بكفاءة وسرعة بين أطراف المدينة، مما ساهم في إعادة تشكيل نمط الحياة اليومية وجعل من التنقل تجربة أكثر سهولة ومتعة. إن رؤية الركاب يصطفون بهدوء وينتظرون مواعيد انطلاق القطارات والحافلات في محطات أنيقة ونظيفة، تعكس بلا شك مستوى الوعي والنضج الحضاري الذي بلغه المجتمع. فثقافة النقل العام اليوم، لم تعد خياراً جانبياً أو اضطرارياً، بل تحولت إلى سلوك واعٍ ومدروس، يعبّر عن إحساس بالمسؤولية تجاه المدينة وسكانها وبيئتها. إنها خطوة نحو مدينة أكثر تنظيماً وأناقة، تواكب طموحات الرؤية الوطنية 2030 التي تسعى لبناء وطن طموح، واقتصاد مزدهر، ومجتمع حيوي، حيث تُصبح جودة الحياة معياراً أساسياً لنجاح التنمية الشاملة.
إنه لمن دواعي الفخر أن نشهد هذا التحول في سلوكياتنا اليومية، ونتطلع إلى مستقبل تتعزز فيه ثقافة النقل العام أكثر فأكثر، لتكون الرياض النموذج الذي تحتذي به بقية مدن المملكة. فالنقل العام ليس مجرد وسيلة للوصول من نقطة إلى أخرى، بل هو عنوان لوعي حضاري ورؤية مستقبلية ناضجة.
• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود






