لطائف الطائف (5-5)
حين يُذكر “سوق عكاظ”، فإننا لا نستحضر مجرد اسم لفعالية ثقافية أو مهرجان موسمي، بل نستدعي ذاكرة العرب الأولى، وساحة كان يُقاس فيها المجد بالحرف، وتُوزن فيه القبائل بلسان شعرائها وخطبائها.
إنه ليس سوقًا للتجارة، بل سوق للهوية، حيث كانت القصيدة تصوغ مكانة القوم، والخطبة تفتح أبواب الجدل، والفكر يتبارز على منابر الرمل والنخيل.
كان عكاظ ملتقى الحرفاء والنبهاء، ساحة من طين وحبر، ومن حرّ اللغة وسخونة العقول. فيه ارتفعت الأصوات الشامخة، وعُلّقت المعلقات، وشُذّبت الفصاحة حتى صارت تاجًا على رأس من يملك الكلمة. وكان العربي يأتيه من أقصى الجزيرة، لا ليبيع أو يشتري، بل ليُعلن ذاته أمام الجمع، وليضع اسمه على لائحة الخلود الأدبي.
ومع مرور العصور، هدأ عكاظ، وانطفأت شعلة أصواته، ونام في رماله المجد. لكنّ الذاكرة لم تنسه، بل ظلّت تنتظر من ينفخ فيه الروح من جديد. وقد تحقق هذا الانتظار في العصر الحديث، حين أُعيد السوق إلى الحياة، بمهرجان سنوي ضخم احتفى بالتراث، واستحضر الشعراء، وأعاد للعرب صوتهم الأول.
ثم توقّف السوق مجددًا في سنوات قريبة، فشعر المهتمون وكأن الصوت انقطع مرة أخرى. ومع ذلك، لم يمت الحلم.
بل بقي دفين الصدور، ينتظر لحظة العودة، ويدًا تمسح عن اسمه الغبار، وتُعيد إليه بهاءه ورمزيته.
اليوم، ومع الجهود التي يبذلها الأمير سعود بن نهار، محافظ الطائف، والذي يُدرك ما لعكاظ من وزن في الهوية الوطنية والثقافية، بدأت ملامح السوق تعود تدريجيًا من جديد. إنه مشروع استراتيجي لا يخص الطائف وحدها، بل يمسّ العمق الثقافي لكل مواطن عربي، ويبعث فينا حنينًا إلى زمن كانت فيه الكلمة سلطة.
إن سوق عكاظ ليس لحظة من الماضي، بل منصة قادمة. وإذا قدّر له أن يعود قريبًا، فسيعود بصورة أشد إشراقًا، ورؤية أوسع، وأبعاد جديدة تُناسب روح العصر، وتُحافظ على أصل الفكرة.
سوق عكاظ…
سيعود، بإذن الله، لا كمجرد حدث ثقافي، بل كعنوان لنهضة ثقافية سعودية شاملة، تستند إلى جذور عربية، وتُحلّق في فضاء المستقبل.

