في المدن التي يتوهج فيها العمران وتخفت فيها البصائر، تتسلل ظواهر جديدة كما يتسلل الظل في حواف الضوء، لا تُرى أول الأمر بوضوح، لكنها تُعيد رسم ملامح الحياة من الداخل. بين الأزقة والواجهات اللامعة، تنمو مقاهٍ مغلقة تُعرف بـ “اللاونجات”؛ بواجهات زجاجية معتمة ومساحات داخلية معزولة، تجتذب أعدادًا متزايدة من الشباب والفتيات. هناك، تُصنع أجواء مغلقة على العالم، بعيدة عن عين الأسرة ونبض الشارع، فتتحول من مجرد مشاريع ترفيهية إلى بيئات رمادية، حيث تمتزج الخصوصية بالانفلات، ويغيب الإشراف المنضبط، وتطول ساعات العمل بلا رقيب، ويُترك المحتوى السمعي والبصري بلا معيار، كأنها جزر صغيرة تفصل مرتاديها عن شاطئ المجتمع.
حذّر عضو مجلس الشورى الدكتور يوسف السعدون من تنامي هذه الظاهرة، مؤكدًا أنها تمثل خطرًا على المنظومة القيمية، وتفتح نوافذ للانحراف السلوكي خلف ستار من الهدوء المصطنع، داعيًا إلى تحرك تشريعي عاجل وتنظيم صارم يحفظ للمجتمع تماسكه ويحمي شبابه من الانزلاق إلى مسارات غامضة. كما يشير مختصون اجتماعيون وأمنيون إلى أن بعض هذه المقاهي تحولت إلى منافذ أولية لتجارب محظورة وسلوكيات غير منضبطة، خاصة في أوساط المراهقين، بما يسهم في تآكل الدور الأسري واتساع الفجوة التربوية، فضلًا عن تغيير إيقاع الحياة نحو السهر المفرط والانفصال عن الدراسة والأنشطة المفيدة.
والأخطر من ذلك أن التوسع في افتتاح هذه المنشآت يتم في ظل غياب اشتراطات تنظيمية واضحة؛ فلا معايير للتصميم أو الإضاءة أو الشفافية، ولا آليات دخول ومراقبة وتفتيش فعالة، مما يجعلها ثغرة مفتوحة تحتاج إلى تدخل عاجل. إن مواجهة هذه الظاهرة لا ينبغي أن تقوم على ردود أفعال وقتية أو حملات مؤقتة، بل على رؤية تشريعية وقائية شاملة تعيد ضبط العلاقة بين الفضاء العام والمتغيرات الاجتماعية، وتضمن ألا تتحول الخصوصية إلى غطاء للفوضى.
المطلوب لائحة متخصصة تنظم عمل المقاهي المغلقة، تقنن ساعات العمل، وتفرض رقابة ذكية مستمرة، وتمنع المحتوى غير اللائق، مع إشراك الجهات الأمنية والاجتماعية والبلدية في عملية الترخيص والمتابعة. فالقضية ليست في الترفيه النقي، بل في غياب الضوابط التي تضمن أن تبقى الفضاءات الترفيهية بيئات بنّاءة وآمنة.
في غياب التوجيه، تتسلل الفوضى في صمت، وتُعاد صياغة الوعي بعيدًا عن قيم الأسرة والمدرسة والجامعة، وحينها لن نواجه فقط أماكن مغلقة، بل عقولًا مغلقة وأرواحًا معلّقة بين وهم الحرية وحقيقة الانفلات. وما نحتاجه ليس تقييدًا للحريات، بل حمايتها من أن تُستلب باسمها، وصون الفضاءات من أن تتحول إلى مرايا عاكسة لفراغٍ متزيّن، وظلالٍ تتكاثر حتى تبتلع الضوء


