في عالم يتسم بالتغيرات السريعة والتحولات الاقتصادية العميقة، برز الاقتصاد القائم على المعرفة كونه النموذج المسيطر في القرن الحادي والعشرين. وفي قلب هذا التحول، يظل رأس المال البشري المحرك الأساسي والركيزة الأكثر أهمية لتحقيق النمو المستدام والتنمية الشاملة. لم يعد رأس المال البشري مجرد مفهوم نظري في الأدبيات الاقتصادية، بل أصبح استثماراً استراتيجياً تحرص عليه الدول والمؤسسات التي تسعى إلى المنافسة في المشهد العالمي المعقد.
أولا : مفهوم رأس المال البشري وتطوره التاريخي
يشير مصطلح رأس المال البشري إلى “المعارف والمهارات والقدرات الصحية التي يستثمر فيها الناس وتتراكم لدى الأشخاص على مدار حياتهم بما يمكِّنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع” . هذا المفهوم، الذي أنشأه الاقتصادي غاري بيكر وجاكوب مينسر، تطور ليصبح أكثر من مجرد قوة عمل، بل مورداً معقداً يجمع بين الإبداع والمعرفة والسمات الاجتماعية والشخصية .
لقد تغيرت النظرة إلى الإنفاق على التعليم والصحة من كونه تكلفة إلى اعتباره استثماراً يخلق الثروة ويُسهم في تحقيق التنمية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وبروز نماذج اقتصادية مثل النموذج النيوكلاسيكي لـسولو في عام 1956، الذي أبرز أهمية “العنصر المتبقي” أو ما يُعرف بالإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج (Total Factor Productivity) .
ثانياً : رأس المال البشري كمدخل للتميز في الأداء الاقتصادي
في الاقتصاد القائم على المعرفة، أصبحت المعرفة والموجودات غير الملموسة الدعامة الأساسية للإنتاج والنمو. هنا، يبرز دور رأس المال البشري ذي المعارف والمهارات والكفاءات العالية كأهم استثمار يمكن للمنظمات والدول أن تقوم به لضمان الاستمرارية والبقاء ومواجهة التحديات المحيطة .
ولرأس المال البشري أثر على النمو الاقتصادي من خلال
1. زيادة الإنتاجية: يسهم الاستثمار في البشر من خلال التغذية والرعاية الصحية والتعليم الجيد والوظائف والمهارات في تنمية رأس المال البشري، وهو أمر أساسي لإنهاء الفقر المدقع وبناء مجتمعات أكثر شمولاً .
2. تعزيز الابتكار: يتمتع الأفراد ذوو التعليم والتدريب الجيدين بقدرة أكبر على الابتكار والتكيف مع التغيرات التكنولوجية السريعة، مما يضمن استمرارية النمو الاقتصادي في الأجل الطويل .
3. جذب الاستثمارات: تنجح الاقتصادات التي تمتلك قاعدة بشرية ماهرة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.
ثالثاً : التحديات التي تواجه تنمية رأس المال البشري في الاقتصاد المعرفي
على الرغم من المكاسب غير المسبوقة في مجال التنمية البشرية على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، لا تزال هناك تحديات خطيرة تواجه البلدان النامية على وجه الخصوص :
1. أزمة التعلم:
تُظهر البيانات أن سنوات التعلم التي يحصل عليها الأطفال في بعض البلدان تقل بصورة كبيرة عن بلدان أخرى رغم استمرارهم في الدراسة لنفس المدة الزمنية. وقد تفاقم هذا الوضع بسبب جائحة كورونا، مما أدى إلى تسرب العديد من الأطفال من التعليم وفقدانهم التعلم .
2. تدني مستويات الصحة:
في عام 2019، كان هناك أكثر من طفل قزم من بين كل 5 أطفال صغار بسبب نقص التغذية، مما ينذر بقصور في النمو البدني والإدراكي. كما أن الإنفاق الصحي في البلدان النامية من قبل الأفراد أنفسهم يلحق أشد الضرر بالفقراء
3. الفجوة الرقمية والمهارية:
تتسع الفجوات في رأس المال البشري في ظل التغيرات العالمية السريعة في التكنولوجيا، مما يخلق عدم توافق بين المهارات التي يمتلكها الأفراد واحتياجات سوق العمل في الاقتصاد القائم على المعرفة .
•
عضو هيئة تدريس سابق – جامعة الملك عبدالعزيز





