لوقت طويل ارتبطت الثقافة في الوعي العالمي بمفهوم القوة الناعمة، أي القدرة على التأثير غير المباشر في الدول والمجتمعات عبر الفنون والآداب والرموز، كما كانت أداة لصياغة الصورة الذهنية، ووسيلة لإبراز الهوية الوطنية، لكنها ظلت محصورة في مجال الرمزية أكثر من حضورها في لغة الاقتصاد، إلا أن العقدين الأخيرين شهدا تحولًا نوعيًا، إذ بدأت الثقافة تُدار كصناعة قائمة بذاتها، تدخل حسابات الناتج المحلي، وتنافس على الاستثمارات، وتؤسس لاقتصاد إبداعي متسارع النمو.
وفي قلب هذا التحول العالمي تبرز السعودية بوصفها حالة نموذجية، فمنذ إطلاق رؤية 2030، لم تُعامَل الثقافة كزينة حضارية أو نشاط ترفيهي، بل أُدرجت ضمن الأعمدة الاستراتيجية للتنمية، والأرقام المعلنة تكفي لتأكيد هذا التوجه، فالمساهمة وصلت إلى ١.٦٪ من الناتج المحلي، وأكثر من ٢٣٤ ألف وظيفة في الصناعات الثقافية والإبداعية، ومليارا دولار تدفقات مالية في عام واحد، واستثمارات في البنية التحتية تجاوزت ٨١ مليار ريال، ولذلك فالمؤشرات هنا لا تُقرأ كبيانات تقنية، بل كدليل على أن الثقافة أصبحت جزءًا من معادلة الاقتصاد الكلي.
لكن ما هو أهم من الأرقام هو اتساع تعريف الثقافة نفسها، فالتجربة السعودية لم تحصر الثقافة في الموروث الشعبي أو الفنون التقليدية، بل أعادت صياغتها كمجال إنتاجي متعدد الأبعاد مثل: السينما، الموسيقى، الفنون البصرية، العمارة، الألعاب الإلكترونية، وحتى فنون الطهي، ويعكس هذا التوسّع إدراكًا بأن الثقافة ليست فقط حفظًا للماضي، بل استثمارًا في المستقبل، وأنها ليست مجرد مرآة للهوية، بل محركًا اقتصاديًا يبتكر ويجدد ويولّد القيمة.
إن هذا التحول لا يمكن أن يقوم على الإنفاق وحده، بل يحتاج إلى بنية معرفية وتعليمية ترسخ الاستدامة، وهنا يأتي الإعلان عن جامعة الرياض للفنون كخطوة نوعية، تهدف إلى أن تكون ضمن أفضل خمسين جامعة عالمية متخصصة، وهذه الجامعة ليست مجرد مؤسسة أكاديمية، بل مشروع استراتيجي يعكس قناعة راسخة بأن الصناعات الثقافية تحتاج إلى قاعدة علمية، وأن الموهبة وحدها لا تكفي من دون إطار بحثي وتعليمي يضمن استمراريتها.
إلى جانب ذلك، برزت الشراكة مع القطاع الخاص كأحد أعمدة الاستثمار الثقافي، فتوقيع عشرات الاتفاقيات الاستثمارية بمليارات الريالات يشير إلى أن الثقافة لم تعد حكرًا على الدولة، بل باتت سوقًا مفتوحة تستقطب المستثمرين المحليين والعالميين، وهذا الانفتاح يحوّل الثقافة إلى منصة للتكامل بين رأس المال والإبداع، ويمنحها القدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
أما على المستوى الدولي، فإن حضور السعودية في المؤتمرات الثقافية العالمية، واستقطابها لشركاء من كبريات المؤسسات والمزادات الفنية والمهرجانات، يعكس رغبتها في أن تكون جزءًا من شبكة الاقتصاد الإبداعي العالمي، حيث لم يعد الاستثمار الثقافي مجرد شأن محلي، بل أصبح أداة للتأثير المتبادل، ولصياغة موقع المملكة كقوة ثقافية ذات وزن اقتصادي.
ويبقى السؤال الأعمق: ما الذي يجعل الثقافة استثمارًا استراتيجيًا في هذا العصر؟ الجواب أن الثقافة ليست موردًا قابلًا للنضوب، بل مورد متجدد يتجدد بقدر ما يتجدد الإنسان نفسه، ولا تكتفي الثقافة بتوليد الوظائف والعوائد، بل تعيد إنتاج المعنى والهوية، وتمنح التنمية بعدًا إنسانيًا لا توفره القطاعات التقليدية، ومن هنا يمكن النظر إلى الثقافة كـ عملة استراتيجية، لا تُقاس فقط بالأرباح، بل بقدرتها على ترسيخ الانتماء، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز الحضور العالمي.
إن التجربة السعودية في الاستثمار الثقافي تعكس انتقالًا جوهريًا من ثقافة تُستحضر للرمز والانتماء فقط، إلى ثقافة تُدار كقطاع اقتصادي طويل الأمد، وانتقال يربط الهوية بالجدوى، والفعل بالعائد، والذاكرة بالمستقبل، وهذه الرسالة لا تخص المملكة وحدها، بل تقدم للعالم نموذجًا في كيفية تحويل الثقافة من قوة ناعمة إلى أصل اقتصادي ومعنوي، يوازي في أهميته أي قطاع استراتيجي آخر.





