في الوقت الذي يشهد فيه العالم تحولات كبيرة في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة، يبرز الكتاب الجديد “Breakneck: China’s Quest to Engineer the Future” للكاتب دان وانج كمرجع مهم لفهم كيف يمكن أن تستفيد الدول من التجارب المختلفة.
يعرض الكتاب مقارنة مثيرة بين الصين والولايات المتحدة، حيث يشير إلى أن الصين تُدار بواسطة المهندسين، بينما تسيطر المحاماة على الولايات المتحدة.
ولعل اهم الفروقات بين التجربتين الصينية والأمريكية يمكن تلخيصها فيما يلي :
1. القيادة والتوجه:
– تُدار الصين بشكل رئيسي من قبل المهندسين، مما يسمح بتنفيذ مشاريع ضخمة بفعالية وسرعة. القرارات تُتخذ بشكل مركزي، مما يسهل التخطيط طويل الأمد.
ببنما تُدار الولايات المتحدة بواسطة المحامين، مما يؤدي إلى جدل طويل حول كل خطوة. النظام القانوني المعقد يعطل اتخاذ القرارات ويؤخر تنفيذ المشاريع.
2.الاستراتيجيات الاقتصادية:
-تركز الصين على التخطيط الاستراتيجي والتطوير الصناعي، مما يؤدي إلى تحقيق إنجازات ملموسة في مجالات مثل التكنولوجيا والابتكار.
– بينما تعاني الولايات المتحدة من تراجع في القدرة على تنفيذ مشاريع طويلة الأجل، حيث تتعطل الخطط بسبب المنازعات القانونية والتعقيدات الإدارية.
3. التعامل مع المجتمع:
– تتعامل الحكومة الصينية مع الشعب كجزء من نظام متكامل، مما قد يُعتبر قاسيًا لكنه فعال في تحقيق النجاح الاقتصادي.
– يينما تُعاني الولايات المتحدة من جدل دائم حول الحقوق والقضايا الاجتماعية، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع وتأخير في تنفيذ المشاريع.
4. المرونة في مواجهة التحديات:
تتمتع الصين بقدرة أكبر على التكيف السريع مع التغيرات والتحديات العالمية، مما يمكنها من الاستفادة من الفرص الجديدة.
بينما تواجه الولايات المتحدة صعوبات في التكيف بسبب التركيز على الجدل القانوني والسياسي، مما يؤدي إلى تباطؤ في الأداء.
ومن كل ذلك يتبين انه لا يمكن اختصار النجاح الصيني في “عقلية المهندس” فقط، بل يعتمد على ركائز سياسية وعملية أكثر تعقيداً:
1. البراغماتية والتدرج: حيث رفضت الصين “نهج الإصلاح بالصدمة” الذي أوصت به المؤسسات الغربية واتبعت نهجاً تدريجياً في الإصلاح والانفتاح، مع الحفاظ على دور مركزي للدولة . فلم تتخل الصين عن التخطيط المركزي تماماً، بل أدخلت تدريجياً آليات السوق والمنافسة إلى جانب التخطيط الحكومي.
2. الاستثمار في الادخار والمعرفة: شجعت الصين الادخار بمعدلات غير مسبوقة (تجاوزت 50% من الناتج المحلي)، مما وّلّد فائضاً كبيراً مول الاستثمارات الداخلية والخارجية . كما أولت الدولة عناية فائقة للبحث والتطوير ونقل المعرفة من خلال الاستثمارات الأجنبية.
3. الانفتاح الواعي: فتحت الصين الباب أمام الاستثمارات الأجنبية ولكن بشروطها، مستفيدة منها في خلق فرص عمل ونقل المعرفة التكنولوجية، دون أن تسمح لها بالهيمنة على الاقتصاد الوطني .
لكن تُرى هل يمكن للدول العربية الاستفادة من التجربة الصينية؟
للجواب على ذلك يمكن القول : إن تبني ‘كفاءة المهندس’ لا يعني التضحية بـ ‘حكمة الأديب’ أو ‘عدالة الفقيه’. بل إن التحدي الحقيقي للعالم العربي هو بناء ثقافة جديدة تولد من رحم هذا التكامل، ثقافة تقدر الإبداع التقني كما تقدر النقاش النقدي البناء، وتجعل من العلم وسيلة لخدمة الإنسان ورفعته.”
إلى جانب هذا التكامل الحضاري، يمكن للدول العربية أن تركز على مايلي :
1. التعليم الفني والهندسي، مما يعزز من قدرة الشباب على المشاركة في مشاريع التنمية.
2. التفكير والتخطيط الاستراتيجي: من خلال دراسة النهج الصيني، لتتمكن الدول العربية تطوير استراتيجيات طويلة الأمد تتجاوز التحديات اليومية والجدل السياسي ولنا في نجاح المملكة العربية السعودية في صياغة رويتها ٢٠٣٠ وتحقيق نجاحات فاقت التوقعات خير مثال على إمكانية تطوير استراتيجيات تعبر الفجوة بين الوضع الراهن والمستقبل المنشود بمبادرات متنوعة وموشرات مقاسة
3. تشجيع وتبني ثقافة الابتكار والتقنية وبخاصة في مؤسسات التعليم العالي بالاضافة الى المعاهد التقنية
4. تحسين البنية التحتية وتبسيط الإجراءات القانونية لتسهيل الأعمال والاستثمارات لنتمكن من النجاح في المنافسة العالمية.
“في الختام، ليست المسألة مجرد اختيار بين نموذجين، بل هي دعوة لتوليد نموذج ثالث مستنير بسنن التاريخ، يستلهم انضباط المهندس وكفاءته، ويحافظ على حيوية النقاش المجتمعي وقيم العدالة. إن العالم العربي أمام فرصة تاريخية لكتابة فصل جديد في سجل الحضارة الإنسانية، فصل لا يكون فيه تابعاً بل رائداً، يجمع بين أمجاد الماضي وروح العصر، لبناء مستقبل لا يقل إشراقاً عن إرثه التليد.”
وما ذلك على الله بعزيز.
• عضو هيئة تدريس سابق – جامعة الملك عبدالعزيز





