في سياق التسارع العالمي نحو اقتصاد المعرفة، برزت الحاجة الماسة لتحويل مخرجات البحث العلمي إلى منتجات قابلة للتسويق تُسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية.
ومن خلال سنوات عملي في مجال البحث والتطوير ( على مدى ربع قرن)في الجامعة وصولا الى اشرافي على صياغة خطة الاستدامة المالية فيها والتي كان احد مكوناتها بالمشاريع البحثية الكبرى يمكنني القول بأن جامعاتنا تقوم بدور رائد في مجال البحث والتطوير حتى أصبح لها بصمة وترتيب متقدم بين جامعات العالم وفق مختلف التصنيفات العالمية، إلا أن كثيراً من هذه الانجازات تتركز في المجال الأكاديمي او المجتمعي ذو الاثر المحدود ( مع تفوات ببن جامعة واخرى) ، وعندما تصبح مخرجاتها المطلب الاول لاحتياجات التنمية المستدامة ولها ارتباط وثيق بالقطاع الصناعي ومن ثم تتحول مخرجاتها العلمية الى منتجات صناعية منافسة وذلك استجابة لبرامج رؤية المملكة ٢٠٣٠ (مثل برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية، و برنامج الابتكار وتمويل البحث والتطوير)، عندذلك ستكون لها القدرة على تطبيق معايير
جاهزية التقنية( النضج التقني)
TRL (Technology Readiness Level)
وصولا الى تحقيق معايير جاهزية التصنيع
MRL (Manufacturing Readiness Level)
بالشراكة الوثيقة مع القطاع الصناعي والقطاع الخاص
سأحاول في هذه المقالة استعراض التحديات الكبرى التي تعترض انتقال الأبحاث من مرحلة النضج التقني (TRL) إلى مرحلة الجاهزية التصنيعية (MRL) وصولاً إلى المنتج التجاري، مع تسليط الضوء على الدور المحوري للشراكة بين مؤسسات التعليم العالي والقطاع الخاص في تعبيد هذا الطريق.
لكن قبل ذلك لابد من شرح ومفهوم المصطلحبن التاليين
1. مستويات جاهزية التقنية (TRL)
2. ومستويات جاهزية التصنيع (MRL).
أما مستويات جاهزية التقنية
(Technology Readiness Levels – TRL)
فهو مقياس طورته وكالة ناسا في سبعينيات القرن الماضي لتقييم مدى نضج تكنولوجيا معينة، ويتكون من تسع مستويات تبدأ من الملاحظة الأساسية للمبادئ العلمية وتنتهي بنظام مثبت في بيئته التشغيلية الفعلية .ويمكن تلخيص مضامين هذه المستويات كما يلي :
1. المستويات المنخفضة (TRL 1-3): تركز على البحث الأساسي وملاحظة المبادئ وصياغة مفهوم التكنولوجيا وإثبات صحة المفهوم معملياً .
2. المستويات المتوسطة (TRL 4-6): يتم فيها التحقق من صحة التكنولوجيا في المختبر، ثم في بيئة ذات صلة، وأخيراً عرض نموذج أولي للنظام في بيئة تشغيلية .
3. المستويات العالية (TRL 7-9): يتم فيها عرض نموذج أولي للنظام في بيئة تشغيلية حقيقية، وإكمال النظام وتأهيله، وإثبات النظام الفعلي في بيئة تشغيلية .
أما مستويات جاهزية التصنيع
(Manufacturing Readiness Levels – MRL)
فهو مقياس مكمل لـ TRL طورته وزارة الدفاع الأمريكية لقياس مدى نضوج عمليات التصنيع وجاهزيتها للإنتاج، ويتألف من عشرة مستويات . فبينما يجيب TRL على سؤال “هل التكنولوجيا تعمل؟”، فإن MRL يجيب على سؤال “هل يمكننا تصنيع هذه التكنولوجيا بشكل متسق وموثوق وبالتكلفة المناسبة؟” . ويبدأ المقياس من تحديد الآثار التصنيعية الأساسية وينتهي بالقدرة على الإنتاج بالكامل مع تطبيق ممارسات الإنتاج الرشيق .
التحديات الكبرى في الانتقال من TRL إلى MRL
إن الانتقال من مرحلة Proof-of-Concept في المختبر (حوالي TRL 4) إلى منتج قابل للتصنيع والتسويق (MRL 9) هو المرحلة الأكثر تعقيداً وتعرف بـ “وادي الموت” للابتكار، بسبب التحديات المتمثلة فيما يلي:
1. . فجوة التمويل: تتطلب المستويات المتوسطة والعالية استثمارات أكبر بكثير . يتوقف العديد من المشاريع عند “المرحلة الحرجة” بين TRL 6 وTRL، حيث يجب إثبات التكنولوجيا في بيئة تشغيلية حقيقية، مما يتطلب استثمارات كبيرة لا تملكها الجامعات غالباً ولا يقدم عليها القطاع الخاص بسبب المخاطرة العالية .
2. تعقيدات سلسلة التوريد والتوريد: يجب إنشاء سلسلة توريد مستقرة وضمان توفر المواد بجودة وكمية مناسبة، وهي عملية معقدة ومكلفة لم تُغطى في مراحل TRL المبكرة .
3. فجوة المهارات والكفاءات: يحتاج الانتقال إلى MRL إلى مهارات جديدة غير موجودة عادة في الأوساط الأكاديمية، مثل هندسة التصنيع وضبط الجودة وإدارة سلسلة التوريد والتخطيط للإنتاج .
4. التكرارية والجودة: يجب تطوير عمليات تصنيع قادرة على إنتاج منتجات متطابقة بجودة ثابتة وموثوقة، وهو تحدي مختلف تماماً عن إنتاج نموذج أولي واحد يعمل في المختبر .
5. النمذجة المالية والدعم: يحتاج تطوير نموذج أولي إلى ميزانية محدودة، بينما يتطلب التصنيع استثمارات رأسمالية كبيرة في الآلات والخطوط الإنتاجية، ما يستلزم تطوير نماذج مالية دقيقة وجذب مستثمرين .
وبالإضافة للتحديات المذكورة أعلاه ، هناك تحديات مؤسسية وحوكمة تواجهها المؤسسات الأكاديمية بشكل خاص مثل :
1. طبيعة المؤسسات الأكاديمية: كونها منظمات غير ربحية و”مراقباً للسوق” أكثر من كونها فاعلاً فيه، مما يؤدي إلى فهم مختلف للقيمة السوقية مقارنة بشركاء الصناعة .
2. تحديات التسويق والتقييم: تشمل صعوبة تحديد الأسواق المناسبة، وجذب الشريك الصناعي المناسب، ونقل الرسالة التسويقية الصحيحة للمنتج القائم على الملكية الفكرية. كما أن عدم شفافية معلومات تقييم الملكية الفكرية يمثل عقبة تفاوضية .
3. العقبات الإدارية والثقافية: مثل الإجراءات المعقدة وسوء ترتيب الأولويات التي قد تثبط الباحثين عن متابعة أنشطة تحويل التقنية إلى منتجات .
وتأكيدا لماسبق فإن الدراسات أثبتت أن 90% من الجامعات الابتكارية ذات المخرجات العالية لديها برامج يقودها مهنيون ذوو خبرة صناعية يمكن الاستفادة منها وتطبيق معاييرها والتي منها :
1. بناء قادة الابتكار: استقطاب كفاءات تمتلك خبرة في “تتجير التقنية” لقيادة برامج الابتكار داخل الجامعات، حيث يعمل هؤلاء كجسر يترجم احتياجات القطاعين الأكاديمي والصناعي .
2. تفعيل الشراكات القوية: تشجيع نماذج كـ “البحوث التي ترعاها الشركات”، والتي غالباً ما تفتح المجال لمزيد من العمل التعاوني في مجال الابتكار وتحويل الأبحاث إلى منتجات .
3. دعم التواصل الشخصي والمباشر: حيث يعد حضور المؤتمرات المشتركة والمشاركة في المسابقات والتفاعل مع حاضنات الأعمال من أكثر الطرق فعالية لبدء الشراكات الناجحة .
إن الشراكة الفاعلة بين الجامعات والقطاع الخاص هي الجسر الذي يعبر “وادي الموت” ويمكن تحقيقها عبر عدة أشكال:
1. التمويل المشترك للأبحاث التطبيقية: يسهم القطاع الخاص في تمويل الأبحاث ذات القابلية للتسويق، مما يخفف من فجوة التمويل ويوفر للباحثين موارد إضافية .
2. المشاريع المشتركة والتدريب: تلبية احتياجات سوق العمل من خلال تصميم برامج تدريبية ومشاريع تخرج مشتركة لطلاب الجامعات لإكسابهم المهارات المطلوبة .
3. حاضنات الأعمال ومسرعات الشركات الناشئة: تقدم الجامعات الدعم اللوجستي والإداري بينما يقدم القطاع الخاص الدعم المالي والاستشاري، مما يساعد في تسريع نمو الشركات الناشئة القائمة على التكنولوجيا .
4. تبادل الخبرات: يسهم خبراء القطاع الخاص في تطوير المناهج الجامعية وتقديم الاستشارات، بينما يقدم الأكاديميون حلولاً مبتكرة لتحديات القطاع الصناعي .
حيث توفر هذه الشراكة فوائد متبادلة منها حصول الجامعات على تمويل إضافي وتحديث للمناهج وفرص توظيف أفضل لخريجيها، بينما يحصل القطاع الخاص على حلول مبتكرة تخفض تكاليف البحث والتطوير وتزيد قدرته التنافسية .
وفي الختام لابد من القول بأنه لا يمكن اجتياز هذه التحديات إلا بشراكة استراتيجية حقيقية بين الجامعات والقطاع الخاص. حيث أن هذه الشراكات ليست رفاهية، بل هي ضرورة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة وبناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
وفيما يلي بعض المقترحات التي تتماشى مع رؤية المملكة وبرامجها التنفيذية للوصول إلى معايير الاقتصاد المعرفي:
1. تعزيز ثقافة الابتكار: بجعل “تتجير التقنية” أولية واضحة ضمن رسالة الجامعة، والتركيز على دورها في التنمية الاقتصادية المحلية، وهو ما تسعى له الرؤية .
2. تطوير الحوافز والسياسات الداعمة: مراجعة سياسات الملكية الفكرية، ومعايير الترقية للأكاديميين، وتوفير التفرغ العلمي لتحفيز الانخراط في أنشطة التحويل التقني والابتكار .
3. تفعيل الوقف الجامعي ( العلمي): وتشجيع رجال الأعمال على المساهمة في تمويل البحث والتطوير لدعم استدامة التمويل .
ولعل في نظام الجامعات الجديد ما يمكن الجامعات التي كُلفت بتطبيقه كجامعة المؤسس من إحداث طفرة نوعية في نقل التقنية وتوطينها وتطويرها بتهيئة البيئة النظامية المحفزة للتعامل مع هذه التحديات
وما ذلك على الله بعزيز





