في زمن تتسارع فيه خطى التطوير وتتعاظم فيه المسؤوليات تجاه خدمة ضيوف الرحمن، تبرز الحاجة الملحة إلى تطبيق أرقى معايير الحوكمة والنزاهة في شركات أرباب الطوائف. فهذه الكيانات التي شُرِّفت بخدمة الحجيج والمعتمرين، تمثل واجهة مشرّفة للمملكة، ومسؤوليتها تتجاوز الربح إلى رسالة دينية وإنسانية ووطنية.
لكن حين تتداخل الأدوار، وتختلط الصلاحيات بين مجالس الإدارات ذات الطابع التشريعي والرقابي، والأعمال التنفيذية اليومية، يظهر ما يُعرف بـ تعارض المصالح، وهو خطر خفيّ قد يُضعف كفاءة الأداء، ويقوّض العدالة في اتخاذ القرار، ويحول دون تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى التي رُسمت لخدمة ضيوف بيت الله الحرام.
السلطة حين تتقاطع مع المصلحة
مجالس الإدارات في جوهرها وُجدت لتضع التشريعات والسياسات، وتراقب التنفيذ لا أن تمارسه. فهي العقل المفكر الذي يرسم الطريق، لا اليد التي تباشر التنفيذ. وحين يمارس عضو المجلس دوراً تنفيذياً، فإنه يتحول من مراقبٍ إلى طرفٍ في القرار، ومن ضابطٍ للتوازن إلى لاعبٍ في الميدان، مما يخلق تضارباً في المصالح ينعكس سلباً على الحوكمة والشفافية.
ولنا أن نتساءل: كيف يمكن لمن يراجع الأداء أن يكون هو ذاته من نفّذ القرارات؟ وكيف تتحقق العدالة في التقييم والمساءلة إن كانت الصلاحيات التشريعية والتنفيذية في يد واحدة؟ إنها معادلة لا يمكن أن تنتج سوى ضبابية، ومصالح متشابكة، ومخرجات ضعيفة لا تليق بمقام خدمة ضيوف الرحمن.
الحوكمة ليست ترفاً إدارياً بل ضرورة شرعية ووطنية
تطبيق معايير الحوكمة في شركات أرباب الطوائف ليس خياراً، بل هو واجب شرعي وأخلاقي وتنظيمي. فالشرع الحكيم حذّر من الجمع بين ولايتين متعارضتين، والنظام السعودي في لوائحه التنظيمية أقرّ صراحة بضرورة تجنيب أعضاء مجالس الإدارات أي مصالح شخصية أو تنفيذية قد تؤثر على نزاهة القرار.
ولذلك، فإن الفصل بين السلطات داخل الشركات يُعدّ من أبرز ركائز الإصلاح الإداري الحديث: مجلس إدارة يشرّع ويُوجّه ويُقيّم، وجهاز تنفيذي محترف ينفّذ وفق الخطط المعتمدة، وتكامل بين الطرفين يضمن جودة الخدمة واستدامة التطوير.
الرؤية المستقبلية: تمكين الفكر وفصل الدور
إن الطريق إلى التميز في خدمة ضيوف الرحمن يمر عبر تحرير المجالس من الأعباء التنفيذية، وتمكينها من التركيز على الرؤية، الاستراتيجية، الرقابة، والتقويم.
وذلك لن يتحقق إلا بتفعيل آليات حوكمة حديثة تشمل:
-
إعادة تعريف الأدوار بين المجلس والجهاز التنفيذي.
-
إقرار ميثاق أخلاقي واضح يمنع تضارب المصالح.
-
تطبيق الإفصاح والشفافية في جميع القرارات والعقود.
-
تمكين الكفاءات التنفيذية المتخصصة بعيداً عن التأثيرات الشخصية أو المصلحية.
-
إخضاع أداء المجلس للتقييم الدوري المستقل من جهات رقابية معتمدة.
من المصلحة الخاصة إلى المصلحة العظمى
شركات أرباب الطوائف ليست مجرد مؤسسات خدمية، بل هم شركاء الوطن في رسالة سامية تعانق الحرمين الشريفين وتخدم ملايين القادمين من أنحاء العالم.
ولن يكتمل شرف هذه الخدمة إلا حين تُدار بمنظومة قيم ومبادئ ترفع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وتجعل من الحوكمة نهجاً لا شعاراً، ومن الأمانة ممارسة لا مجرد كلمة.
فحين يُجَنب عضو المجلس تضارب المصالح، ويتفرغ لدوره الاستراتيجي، تُفتح أبواب الإبداع المؤسسي، وتتجلى صورة المملكة كما أرادتها القيادة الرشيدة: قدوة في الحوكمة، وريادة في خدمة الإنسان، ونموذجاً في النزاهة المؤسسية.


