عبدالله احمد الزهراني

أغنياء ولكن ..

القراءة سمة شخصية يتفرّد بها كل قارئ عن الآخَر، وللناس فيما يقرؤون أهداف ومقاصد.

منذ أن أقبلت على القراءة، ابتعدت عن الكتب التي تشغل البال دون أن تصل به إلى حقيقة معينة أو نتيجة منطقية -مثل مواضيع ما وراء الطبيعة- حتى لايتوه العقل في عوالم اللامنطقية، وفي نفس الوقت لا أريد أن أملأ الذاكرة بمعلومات لا يستطيع عقلي التعامل معها، وهذا لا يمنع من الخروج قليلًا عن المألوف؛ ولو لمجرد الفضول.
قرأت للأديب المصري أنيس منصور كتاب “الذين عادوا إلى السماء”. وهو المفكر والفيلسوف والمستشرف للمستقبل، لكن الغريب أن الكتاب أعطى مفعولًا عكسيًا للزمن.. فقد أعادني للماضي البعيد.. لأكثر من ثلاثة آلاف عام.

خلال القراءة، كنت حريصًا على أن لا أدخل تجربة الانغماس للمؤرخ الإغريقي القديم (هيرودوت) صاحب كتاب (التاريخ) عندما جاء إلى مصر، وأطلعه الكهنة على أسرار الحياة والموت والكون، ثم أدخلوه المعابد وجعلوه يرى بعينيه كرات من النار الباردة، وهي تتطاير أمامه دون أن تكون لها حرارة.. وتتحرك بإشارات من الكهنة. وكيف رأى أعوادًا من الحديد ترتفع فوق سطح الأرض.. وتظل معلقة في الفضاء. وفسروا له هذه القدرات الميتافيزيقية بأنها: قدرات خاصة بالكهنة الذين جاءوا من (القارة الغارقة)، و أن هذه القدرات لا يجب أن يعرفها الشعب “حتى لا يفسد عقله ووجدانه”؛ ولذلك “من الحكمة” أن يحتفظ الكهنة بهذه الأسرار الكونية ولا يطلعون عليها سوى الإمبراطور فقط، أما الناس البسطاء (الطيبون)، فإن عقولهم لا تقوى على استيعاب هذه المعارف المعقدة. وكان “هيرودوت” وفيًا بالوعد، فلم يُذع الكثير من الأسرار التي اطلعوه عليها، خصوصًا: سر الهرم؟ والأسرار الكثيرة الخاصة به؟.. والأهم: أين أخفى الكهنة وثائقهم الكهنوتية داخله؟

بالنسبة لي توقفت عند هذا الحد، وآثرت أن أرحم نفسي، وأبقى مع فكر الطيبين.. فلا أريد أن أعرف كل هذه الأسرار يا أنيس.. يكفي أن الخوف من قصص النمنم والغول لازمني كثيرًا، ولم أتعافَ منه إلا بعد عمر طويل. فالهرم الأكبر، و أخبار وقصص الفراعنة زادت من حيرة الناس، ومن ذهول العلماء.

يقول العالم المصري د. جهيد: “إن الذي رأيناه على الأجهزة تحت الهرم شيء يتنافى مع العلم الحديث، وهو يتناقض مع العلم.. فإما أن تكون كل قوانين الأشعة التي تعلمناها خطأ، وإما أن نكون أمام لغز ليس له تفسير..”. ويضيف: “إن الذي رأيته مختلف تمامًا عن كل التوقعات العلمية، وإن مسار الأشعة الكونية في أحجار الهرم ينحرف مرة يمينًا ومرة شمالًا.. وهذا غير منطقي وغير علمي. ففي الهرم لغز يتحدى العلم والعلماء”.

حيرني الأديب القدير الفلسفي الكبير أنيس منصور بإيراد مثل هذه الأخبار، ولكنه استدرك، وهو يُعد كتابه وجود عيّنة من القراء أمثالي تخاف من أسماء الأهرام فضلًا عن معرفة ما يدور في عالمها.. فأورد لهم ما يلبي ذائقتهم -وهذا أحد فنونه الكتابية- قلبت الصفحة وأجد مقولة الأديب الإيطالي (ألبرتوا مورافيا) في كتابه الذي أصدره بعد أن سافر إلى الصين: “.. في الصين ستجد أمامك معنى واحدًا هو: أنه لا يوجد إنسان غني ولا يوجد إنسان فقير. بل إنهم لا يعرفون معنى كلمة غنى ولا معنى كلمة فقر. فالإنسان يجد ما يحب، ويحب ما يجد”، “.. في الصين الناس جميعًا سواء.. فالأصل أن يكون الإنسان عاريًا، وبعد ذلك يكسو نفسه بما يشاء من الملابس. والأصل أن يكون الإنسان فقيرًا وبعد ذلك يصبح مقتدرًا أو غنيًا”.

في الحقيقة، تداعت هذه المقولة الأخيرة في خاطري وقلت: يبدو أن هذا هو السبب في إغراق الصين للأسواق العالمية بالملابس.

لكن أنيس منصور لم يكتفِ عند هذا الحد من سرد حديث مورافيا، بل ذكر أيضًا: “يبدو أن الإنسان حريص، وكذلك الشعوب حريصة، على أن تكون في حالتها الطبيعية من الفقر. ولذلك نجد الرجل الغني يبدد أمواله في الهواء واللعب، أو في المشاريع الكبيرة”.
بدأت أشعر بأن الأديب ألبرتو مورافيا يقصدني ويتحدث عني، غير أن ما أراحني أنه ربط الموضوع بالأغنياء وأصحاب المشاريع الكبيرة.. ولست منهم.

النتيجة التي خرجت بها.. وهي أشبه بالميتافيزيقيا التي ذكرتها في بداية المقال، أنني قابلت أغنياء (فعليًا ليس في جيوبهم مليم واحد)، ومنهم (ليست لديهم قدرة صحية على أن يأكلوا ويشربوا).. وكأنهم فقراء لا يجدون الطعام أو العلاج. هل الطبيعة فعلًا لها قوانين خفية؟

هذه الجزئية بالذات أعادت بذاكرتي لموقف شهدته قبل سنوات عندما أحضر بعض رجال الأعمال في مكة المكرمة شيخ بندر التجار؛ لشراء أرض تُقام عليها فعاليات سنوية.. وبعد الانتهاء من الاجتماع ومعاينة الأرض، اقتربت من هذا الثري رغبة في التحدث معه في موضوع خاص، وكان متكئًا على مرافقيه يمشي ببطء، فهمس لي أحدهم: موعد حبوب الضغط والسكر والقلب.. وليس الآن مناسب للتحدث. فدعوت له بالشفاء، وشكرت الله على نعمة العافية.

الموقف لم ينتهِ بعد، أحد الحضور قال بحسرة: ليتني مثل هذا القارون. فسمعه زميلي الجزائري، فقال بلهجته الجزائرية: عَليِش يا وُلدِي تكون مثله وأنت تأكل، وتشرب وتنام أفضل منه. وكأن زميلي الجزائري يؤكد صحة مقولة مورافيا (كم من غني محروم من ملذات الحياة).

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. القراءة نافذة نحو عوالم لم تكن مشهودة من قبل، يفتح أفاقاً من معارف ومهارات تنير طريق السائرين في ركب العلم، يسبر من خلالها أعماق بحر خضم من معاني لم تكن في الحسبان، إنها تأخذنا في رحلة مكوكية ليس فقط للمستقبل أو الفضاء الخارجي بل تعود بنا للزمن العتيق في عمر الكون لتجسد لنا ماكان وما يكون، ولنكتسب من خلالها العبر والحكم والدروس والتطلعات والاستراتيجيات لقادم نضطلع إليه!!.
    كم نحن منصفون عندما نعظم شأن القراءة!!.
    كم نكتسب ثقافة الآخرين عبر جسور القراءة لنفك شفرات مستعصية أو لنأخذ منهم وعنهم ماكان خفيا، ولنا في القصص القرآني نبراسا نستلهم منه ماكان ويكون في حدود علم البشر، لنفرق إزاءه بين السحر و والرموز العلمية التي نشأت من خيالات علمية!!.
    مقال، ينم عن شغف، وقراءة متمكنة متعمقة، طوبى للقراء تلك المنزلة الرفيعة التي يحظون بها.

  2. مقال جميل وسرد أجمل، بين الغنى والفقر سطرت العديد من الفلسفات المختلفة والمتناقضة في طرحها، ويبقى أن وجود سقف للكفاية يتوافق مع امكانيات الفرد هو مما يعين على تقبل العيش والرضا بالنصيب مع السعي لتحسين ما يمكن وفق ما تخدمه الامكانيات والمبادئ..
    شكرًا لك أيها الكاتب الفذ، وهنيئًا للأفكار تجوالها في عقلك، فهي تكتسي في حروفك أبهى حللها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى