المقالات

قراءة قانونية في الخطاب الملكي السنوي لمجلس الشورى: المضامين والأبعاد

بمناسبة افتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى وجه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله – عبر الاتصال المرئي – خطابًا ساميًا تميز بالدقة والوضوح والشمولية؛ حيث رسم السياسة الداخلية والخارجية للمملكة ومواقفها سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا، واستعرض أهم القضايا الإقليمية والدولية، وحملت كلمته عديد المضامين الهامة والتوجيهات السديدة والرسائل السامية تُمثل خارطة طريق لأعمال ولجان مجلس الشورى، وتفعيل أدواره التنظيمية والرقابية وفقًا لما نص عليه نظام المجلس وكذلك للأهداف والبرامج والمبادرات التي تعمل المملكة على تحقيقها، وتمثل هذه المقالة قراءة قانونية في المضامين السامية للخطاب وتحليلًا لدلالاته وأبعاده.
يُمثل هذا الخطاب وثيقة جامعة للإنجازات والنجاحات والقرارات التي شهدتها المدة المنقضية، وتكشف تطلعات ورؤى وتوجهات القيادة الرشيدة في المستقبل؛ حيث أثار عدة قضايا وأبرز المبادئ والسياسات التي رسمتها المملكة على المستويين الداخلي والخارجي، وتمثلت أبرز المحاور التي اشتمل عليها الخطاب فيما يلي:
أولًا: أكد الخطاب الملكي على أن دستور المملكة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأن مبدأ الشورى هو منهج الحكم، حيث تتخذ منه قولًا فصلًا وعملًا في سياساتها وتحقيقًا لمستهدفاتها وبرامجها وقراراتها وذلك منذ أن أرسى الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ دعائم الدولة السعودية ومن بعده أبناؤه البررة على اتخاذ الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، وستظل متمسكة بهذا المبدأ وهذه الخصوصية الفريدة بين دول العالم الإسلامي، والمتمثلة في بناء دولة حديثة قائمة على أساس الدين والدعوة إليه، مما حقق لها النجاح في جميع جوانب الحياة وجعلها القائد في العالم الإسلامي. وفي هذا الإطار أكد خادم الحرمين على الاعتزاز بخدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن، والاستمرار في توسعة الأماكن المقدسة مع إطلاق المشاريع الكبرى ورفع مستوى الخدمات المقدمة وفق أعلى المعايير العالمية.
ثانيًا: جاء هذا الخطاب الملكي في وقت تشهد فيه المملكة نهضةً وتطورًا وتنميةً مستدامةً في كافة المجالات تنفيذًا للرؤية الطموحة 2030 التي يقودها سمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- مشددًا على المضي قدمًا في تنفيذ المرحلة الثانية منها، ومشيدًا بما تحقق من مشاريع وإنجازات غير مسبوقة، وإصلاحات اقتصادية، وتحديث هياكل الدولة وتعديل الأنظمة والتشريعات لتحقيق مستهدفات رؤية 2030 الطموحة، التي يقودها سمو ولي عهده الأمين -حفظه الله-؛ مما ساهم في تطوير الاقتصاد السعودي، والارتقاء بمستوى الخدمات وجودة الحياة، والتقدم في المؤشرات التنافسية العالمية المتعلقة بالتعليم والبحث والابتكار، والتركيز على التقنية والتحول الرقمي الكامل، وطرح مشروعات الطاقة النظيفة والمتجددة والاستثمار فيها، والحفاظ على البيئة والحد من التلوث ومواجهة القضايا الملحة والمتنوعة التي يواجهها العالم والتحديات المشتركة المتمثلة في التغير المناخي وآثاره السلبية من خلال تبني المملكة حزمة من المبادرات التي ستسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية، ومنها مبادرات كفاءة الطاقة ومشروع الهيدروجين الأخضر والسعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر.
كما أشار الخطاب إلى الاهتمام بالإنسان والمجتمع، ودعم رواد الأعمال والمشاريع الإبداعية الفريدة مثل: العلا والدرعية ونيوم وقطاع السياحة؛ حيث حققت المملكة وفقًا لمؤشر TTDI المركز 33 متقدمة 10 مراكز دفعة واحدة عن العام 2019م، وتمكين المرأة وتطوير قدراتها، وغيرها من البرامج والمبادرات تعيش معها المملكة عهدًا مشرقًا زاهرًا حققت فيه الريادة العالمية في عدة مجالات، مثل: التقدم العالمي في الصادرات غير النفطية، وأعلى نسبة نمو بين جميع اقتصادات العالم، وصولًا لإطلاق برنامج المملكة لرواد الفضاء، وانتخاب المملكة عضوًا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومجلس “الإيكاو”، ليؤكد ما تحظى به من تقدير ومكانة على المستوى العالم؛ فضلًا عما أنعم الله به عليها من أمن واستقرار وازدهار، في ظل رؤية المملكة ومتابعة تنفيذ برامجها في المرحلة الثانية بكل دقة.

ثالثًا: تطرق الخطاب إلى الدور الريادي والمحوري للمملكة في المنطقة العربية والإسلامية وفي العالم مؤكدًا أن “السعودية كانت ولا تزال وسيطة للسلام ومنارة للإنسانية للعالم قاطبة”، وهو ما يتأكد من خلال جهود سمو ولي العهد في تبني المبادرات الإنسانية تجاه الأزمة الروسية – الأوكرانية، ونجاح وساطته بالإفراج عن أسرى من عدة جنسيات وعودتهم إلى بلدانهم. وفي مجال العمل الإنساني، واستشعارًا لمسؤولياتها تجاه المجتمع الدولي ورغم الصعوبات الاقتصادية، أكدت المملكة التزامها بدورها الإنساني والتنموي الكبير في مساعدة الدول الأكثر احتياجًا، وتلك المتضررة من الكوارث الطبيعية والأزمات الإنسانية، حيث تُعد أكبر دولة مانحة للمساعدات الإنسانية والتنموية على المستويين العربي والإسلامي؛ إذ قدمت مساعدات في مجال الأمن الغذائي والزراعي بما يقارب 8.2 مليار ريال.
رابعًا: شدد خادم الحرمين الشريفَيْن على أن تحقيق السلم والأمن الدوليين هدف استراتيجي للمملكة، وخيارها الأساسي هو التوصل للحلول السلمية واحترام القوانين والأعراف الدولية، وتعزيز التعاون الدولي ذلك أن استتباب السلم والأمن الدوليين لا يتحقق من خلال سباق التسلح، بل بالتعاون ودعم الحلول السلمية التفاوضية ورفض التدخلات الخارجية. وفي إطار ما عانته منطقة الشرق الأوسط، ولا تزال، من تحديات أمنية وسياسية كبرى، أكد الخطاب على أهمية جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من جميع أسلحة الدمار الشام، وحث المجتمع الدولي على تكثيف ومضاعفة الجهود في سبيل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل داعيًا إيران إلى الوفاء عاجلًا بالتزاماتها النووية والتعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واتخاذ خطوات جدية لبناء الثقة بينها وبين جيرانها والمجتمع الدولي. وفي ظل ما يشهده العالم من حروب وصراعات أكد الخطاب على ضرورة العودة لصوت العقل والحكمة، وتفعيل قنوات الحوار والتفاوض والحلول السلمية ودعم كافة الجهود الدولية الرامية إلى إيجاد حل سياسي يؤدي إلى إنهاء الأزمة الروسية – الأوكرانية ووقف العمليات العسكرية بما يحقق حماية الأرواح والممتلكات ويحفظ الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
​ويعكس الخطاب في هذا الجانب، رؤيةَ قائد للأمتين العربية والإسلامية، مُنْشَغِل بأوضاعها والبحث عن حلول لاحتواء ما تواجهه من أزمات، حيث شملت كلمته القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وأكد مبادئ المملكة تجاه هذه القضية المصيرية الرافضة لأي اتفاق سلام دون تحقيق العدالة التامة للشعب الفلسطيني، وموقفها الداعم للشعب اليمني في مواجهة الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران وأولوية الحل السياسي الشامل في اليمن وفق قرارات الأمم المتحدة ومبادرة المملكة، وسعيها الدائم في سبيل تحقيق الاستقرار في جميع دول المنطقة وتجنيبها مآسي الاقتتال والإرهاب؛ وخاصة منها العراق والسودان وسوريا، وشدد على ضرورة وقف إطلاق النار في لبنان لتجاوز أزمته وتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة وأهمية بسط سلطة حكومته على جميع الأراضي اللبنانية لضبط أمنه والتصدي لعمليات تهريب المخدرات والأنشطة الإرهابية، وكذلك تنفيذ القرار الأممي لحفظ استقرار ليبيا، واستمرار المساعدات لأفغانستان والحرص على دعم أمنها لمنع تحولها لمنطلق للعمليات الإرهابية أو أن تصبح مقرًا للإرهابيين.
خامسًا: أبرز الخطاب سعي المملكة الحثيث “نحو ضمان مناعة ركائز عالم الطاقة الثلاث مجتمعة وهي: (أمن إمدادات الطاقة الضرورية، والتنمية الاقتصادية المستمرة من خلال توفير مصادر طاقة موثوقة، ومواجهة التغير المناخي” ودعم استقرار وتوازن أسواق النفط العالمية بوصف البترول عنصرًا مهمًا في دعم نمو الاقتصاد العالمي، ويتجلى ذلك في دورها المحوري في تأسيس واستمرار اتفاق مجموعة “أوبك بلس”؛ نتيجة مبادراتها لتسريع استقرار الأسواق واستدامة إمداداتها على نحو يحفظ مصالح المستهلكين والمنتجين. وكذلك حرص المملكة على تنمية واستثمار جميع موارد الطاقة التي تتمتع بها، مشيرًا إلى أهمية اكتشاف عدد من حقول الغاز الطبيعي في بعض مناطق المملكة بما يسهم في التنوع الاقتصادي والأثر المالي الإيجابي على المدى الطويل.
سادسًا: ذكر الخطاب بالتزام المملكة بمبادئ وقرارات الشرعية الدولية، واحترام السيادة الوطنية لجميع الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ورفضها القاطع لكل محاولات التدخل في شؤون المملكة الداخلية.
سابعًا: شدد الخطاب على ضرورة التصدي للفساد والجريمة والإرهاب، مشيرًا أن المملكة حققت نجاحات متتالية في مكافحة الفساد، بتكريس مبدأ الشفافية والمساءلة، وتتبع ومراقبة الأداء الحكومي وفاعليته بالتعاون في هذا الشأن على المستويين المحلي والدولي ضمن الاتفاقية العربية واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
يعكس الخطاب من خلال مضامينه الهامة الاهتمام والدعم الكبير من خادم الحرمين الشريفين وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله- لمجلس الشورى باعتباره أحد الركائز المهمة للدولة في الجانبين التنظيمي والرقابي وصناعة القرار، وشريكًا للحكومة في مسيرتها نحو تحقيق النهضة الشاملة التي تعيشها المملكة، بالإضافة إلى دوره البرلماني والدبلوماسي الفاعل في توطيد ودعم العلاقات البرلمانية وتعزيزها مع برلمانات دول العالم المختلفة، وتوضيح مواقف المملكة، وتعزيز مكانتها وثقلها الدولي؛ مما يدعم سياستها الخارجية ويحقق أهدافها، ويمثل الخطاب منهج عمل ودافعًا قويًا لأعضاء مجلس الشورى واستكمال مسيرة التنمية في المرحلة الثانية من الرؤية الطموحة 2030.
كما يعكس الخطاب خاصة رؤية وحنكة قائد عظيم وحكيم، في توقيتٍ دقيق وبالغ الخطورة، أصبح فيه العالم في حاجة ملحة وضرورية إلى صوت الحكمة والاعتدال والتعاون لمواجهة التحديات الجسام التي يمر بها، وفي مقدمتها الأوبئة والكوارث والأزمات والحروب وتداعياتها الصحية والسياسية والاقتصادية والمناخية.
وعلى المستوى الخارجي، يبرز الخطاب المكانة والدور الإنساني والسياسي والاقتصادي الريادي للمملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي ويرسم خارطة طريق للتعامل مع كل القضايا على الساحتَيْن الإقليمية والدولية. كما يُقدم رؤيةً واضحةً للمشكلات التي يواجهها المجتمع الدولي والتحديات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، تحمل رسالة سامية إلى العالم تدعو إلى التعايش والسلام والتعاون وتعكس حرص قادة مملكة الإنسانية، على مر تاريخها المشرف، على زرع الخير، والوقوف الثابت لا فقط إلى جانب الشعوب العربية والإسلامية، بل إلى جانب شعوب العالم أجمع في المحن والابتلاءات ودعمها الدائم والثابت للقضايا العادلة، حيث تستأثر المملكة بموقف الريادة، وتأخذ زمام المبادرة في الدعم السياسي والاقتصادي والمعنوي والإغاثي. هذا الدور الريادي للمملكة ازداد قوة وفعالية في عهد خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين اللذين جعلا المملكة وسيطةً للسلام ومنارة للإنسانية للعالم قاطبة. وفي الوقت ذاته تضمنت رسالةَ حزمٍ وعزمٍ بأن المملكة لن تتهاون في الدفاع عن أمنها الوطني ورسالةَ طمأنة للأشقاء الذين يمرون بمِحَنٍ، باستمرار المملكة في دعمهم ومساعدتهم. هذه الرسالة انطلقت من عدة ثوابت ومرجعيات أهمها المرجعية الإسلامية، المرجعية العربية، المرجعية الإنسانية والمرجعية القانونية القائمة على احترام القوانين والالتزامات والأعراف الدولية. ​
ختامًا: نسأل الله تعالى أن يُديم الصحة والعافية على خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، وأن يُمدهما بالتوفيق والسداد لكل ما فيه خير البلاد والعباد، وأن يديم على بلادنا أمنها واستقرارها وعزها ورخاءها، وأن يعين ويوفق المجلس لتحقيق تطلعات القيادة الرشيدة وطموحات الوطن والمواطن، والمساهمة في دعم منظومة المبادرات المواكبة لرؤية المملكة 2030.

– أستاذ القانون الدولي العام والعقوبات الاقتصادية
– رئيس قسم القانون العام، جامعة جدة
– وكيل كلية القانون والدراسات القضائية للتطوير والتنمية المستدامة سابقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى