عام

طلاق الأسر تفكك المجتمع

الآباء والأمهات، هم ركائز في تنمية الرفاهية العاطفية للأبناء وعادة ما يتطلع الأبناء إلى آبائهم لوضع القواعد في حياتهم واللبنات الأولى في تكوين الشخصية لا يتأتى إلا ببصمات الوالدين. ففي العادة يترك الوالدان أعظم الأثر في شخصيات الأبناء؛ كما أن التنشئة الأسرية الوالدية لها عظيم الأثر في تحديد طريقة حياة الأبناء على المدى الطويل بل حتى في حالات انفصال الوالدين أو غياب أحدهما لمرض أو وفاة أو اغتراب يظل تأثير الوالدين قائمًا ومستمرًا. فالأبناء يتطلعون إلى والديهم لتوفير الشعور بالأمان، الجسدي والعاطفي.
على أن كثرة انتشار حالات الطلاق التي نلاحظها في مجتمعنا اليوم على ذلك النحو المريع تحتاج إلى دراسة أسبابها ومعالجتها من قبل التربويين والمتخصصين. وفي هذا السياق، أصدر مجلس الوزراء قرارًا بتأسيس مجلس شؤون الأسرة استشعارًا لأهمية هذا المكون في المجتمع، فالأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء أي مجتمع، ولذا أصبح هناك متابعة لحالات الطلاق والزواج والمشاكل الأسرية. وفي هذا الإطار أيضًا، أطلق المجلس العام المنصرم بيانًا أوضح فيه تراجع نسب الطلاق بالمملكة بنسبة 16٪ إضافة إلى تسجيل أكثر من 100 ألف عقد زواج في العام 2022م، وخلال عام 2021 زادت معدلات الزواج بنسبة 19٪ مقارنة بعام 2020م في المجتمع السعودي. ووفق البيانات الرسمية الصادرة من وزارة العدل، فإن حالات الزواج في (النصف الأول) من عام 2022م بلغت 107.263 حالة، حيث تم تسجيل 303 حالة زواج يوميًا. ولكن، ومع ازدياد حالات الزواج، لوحظ ازدياد في حالات الطلاق والخلع. وأعاد مجلس شؤون الأسرة “أسباب هذا الانخفاض الإيجابي في معدلات الطلاق [إلى] تحسن البيئة التشريعية والقانونية، فقد كان من الأسباب صدور نظام الأحوال الشخصية ضمن مشروعات منظومة التشريعات المتخصصة التي أعلن عنها سمو ولي العهد حفظه الله.”
ولأن الإصلاح خطوة مهمة جدًا قبل وصول الطرفين في الزواج لطريق مسدود فإني أؤيد بصفتي أحد أعضاء لجنة إصلاح ذات البين في المنطقة الشرقية قرار وزير العدل بإحالة طلبات الطلاق إلى مركز المصالحة بشكل إلزامي مما قد يسهم في نجاح المبادرات التصالحية التي تنتهي بحلول ودية تحول دون قرار الانفصال. ولا شك أن وجود طرف في هذه اللجان ينظر إلى تلك الحالات بمنطق عقلاني بدون تحيز أمر في غاية الأهمية، ولا شك أن هذه اللجان كانت عاملًا من العوامل التي أدت إلى تراجع نسب الطلاق في الدعاوى بواقع 22٪ حسب إحصاءات مجلس شؤون الأسرة. فكم من حالة طلاق كانت بسبب قلة خبرة الطرفين أو تسرعهم أو تجاهلهم للواجبات على حساب الحقوق! وفي بعض الحالات قد يكون بسبب عدم استيعاب كل طرف لدوره خصوصًا في الشهور أو السنوات الأولى، وهذا السبب، في حقيقة الأمر، مكمل للآخر.
إن الجهود الوطنية التي تبذل للحد من حالات الطلاق والمشاكل الأسرية الكبيرة التي تنجم عنه، كتفكك الأسر وضياع الأبناء عند تخلي أحد الوالدين عن المسؤوليات المناطة به وصعوبات حياتية أخرى في الكبر، إن هذه الجهود سعي محمود يجب تشجيعه. ولا يجب أن ننسى الدور العظيم الذي تبذله الجهات المسؤولة في هذا الإطار، ويمكن أن نشير هنا إلى ندوة الأسرة التي عقدت في مجلس شؤون الأسرة تحت عنوان “أرقام وإحصاءات الطلاق… الآثار والانعكاسات على الأسرة والمجتمع”، وذلك بمشاركة الجهات المعنية وهي وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، النيابة العامة، هيئة الإعلام المرئي والمسموع، ومركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وجمعية مودة للحد من آثار الطلاق وجمعيات إصلاح ذات البين، ولجنة المرأة بالمجلس. وفي هذا دلالة واضحة على العناية التي توليها رؤية المملكة 2030 للأسرة كلبنة أساسية في المجتمع السعودي.
ومما لا شك فيه أن الفاتورة الأضخم في حالات الطلاق هي تلك التي يدفعها الأبناء فيواجهون التحديات الكبرى لأن من اليسير نسبيًا لكل من الزوج والزوجة في حال حدوث الطلاق بدء حياة جديدة مع طرف آخر، لكن الأطفال يصبحون ضحية إذ لا يستطيعون تجاوز انفصال والديهم وانتقالهم للعيش مع أحدهما. يظل الأبناء طوال حياتهم في حالة من عدم الأمان النفسي والإحساس الدائم بالخسارة عدا عن الشعور بالحقد والغضب تجاه أحد الوالدين الذي يعتقده أنه كان سبب الانفصال. ولأهمية الدور المناط بممارسي الإرشاد الأسري والمختصين الاجتماعيين، أكدت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أنها بصدر إصدار رخصة مهنية لممارسي الإرشاد الأسري والمختصين الاجتماعيين، وإنشاء منصة للإرشاد تنظم أعمال هذا القطاع. ولا شك أن هناك مسؤولية كبرى تقع على عاتق الممارسين في الإرشاد الأسري والمختصين الاجتماعيين في التوعية بأدوار الزوجين التكاملية لا التنافسية، وجانب آخر هو التوعية بما يواجه الأسر من تحديات في أول الزواج من أمور مادية وتهيئة الطرفين لكيفية التعامل مع أي مشكلة تواجههم في بداية حياتهم. وعلى كلا الطرفين تذكر قوله تعالى: “وجعلنا بينهما مودة ورحمة.”

أ.د. أماني خلف الغامدي

جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى