في عام 2016، هدد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي باستخدام المياه سلاحًا، بعد الهجوم الإرهابي الدامي الذي راح ضحيته العشرات، في الجزء الذي تديره الهند من كشمير. وقال مودي يومها: “لا يمكن للدم والماء أن يتدفقا معًا”.
وبعد حادثة “بهلجام” المروعة الدموية مؤخرًا، والتي راح ضحيتها ٢٦ شخصًا في نفس القطاع الكشميري المتنازع عليه والذي تديره الهند؛ استعادت منطقة جنوب آسيا مشاهد ومآلات وقرع طبول الحرب بين الهند وباكستان؛ ولكن هذه المرة ليس عبر سيناريوهات الحرب التقليدية أو حتى التلويح باستخدام الأسلحة النووية التي عادةً ما يتخوف منها المراقبون من حدوثها؛ بل إلى حرب من نوع آخر أكثر دموية وإيلامًا، عندما اتخذت الهند قرارًا استراتيجيًا ضد جارتها في تصعيد حاد وانتقامي، بسبب حادثة بهلجام، وهي المدينة السياحية الأجمل في كشمير؛ حيث علّقت الهند العمل بمعاهدة رئيسية لتقاسم المياه بين البلدين، معلنة بدء حرب المياه النووية ولأول مرة.
ولم تنتظر إسلام آباد طويلًا للرد على الإجراء الهندي التصعيدي، فأصدرت بيانًا شديد اللهجة تؤكد فيه أن أي وقف للعمل بمعاهدة المياه يعد تهديدًا لسيادتها وسيُقابل بردٍ رادع، وأن أي محاولة هندية لوقف أو تحويل تدفق مياه نهر السند “سيُعتبر إعلانًا للحرب”، وأغلقت إسلام آباد مجالها الجوي والحدود البرية مع الهند، وعلّقت التجارة الثنائية، وطردت عددًا من الدبلوماسيين الهنود، وجهّزت صواريخها التقليدية والنووية ووضعتها في منصات الإطلاق. كما اتخذ البلدان قرارات بتخفيض واسع في أعداد الدبلوماسيين، بما في ذلك سحب العديد من الدبلوماسيين والملحقين العسكريين والموظفين الهنود من إسلام آباد، وتوجيه إنذارات لنظرائهم الباكستانيين للعودة إلى ديارهم.
وتتهم نيودلهي إسلام آباد بأنها وراء الحادثة، فيما تنفي باكستان ذلك جملةً وتفصيلًا.
ولا يُعد التصعيد الهندي الباكستاني حديث العهد، حيث تصاعدت التوترات كثيرًا بين الجارتين، ووصلت إلى مواجهات عسكرية حقيقية ومناوشات على خط وقف إطلاق النار في كشمير؛ إلا أن المراقبين اعتبروا وقف العمل بمعاهدة تقسيم المياه هو التصعيد الأكبر، كونه يتعلق بالأمن المائي الاستراتيجي لباكستان.
ويُعد نهر السند أحد أطول الأنهار في آسيا، ويمر عبر خطوط ترسيم حساسة للغاية بين الهند وباكستان في إقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة والمتنازع عليه. ورعى المعاهدة المبرمة عام 1960، البنك الدولي بعد مفاوضات استمرت سنوات. وتنص المعاهدة على “الاستخدام المنصف” لستة روافد تغذي نهر السند. وتُعتبر قضية المياه حساسة للغاية بالنسبة لكلا البلدين. وبموجب المعاهدة، تم الاتفاق على أن تسيطر الهند بشكل كامل على ثلاثة من روافد شرق نهر السند، وهي نهر رافي، ونهر سوتليج، ونهر بياس. وللهند حق غير محدود في استخدام الروافد الثلاثة لأغراض الري وتوليد الطاقة. ورغم استغلال الهند لمعظم مياه الروافد، فإنها لا تزال تتدفق إلى باكستان، خصوصًا خلال موسم الأمطار عندما تمتلئ السدود.
في المقابل، تقع ثلاثة روافد غربية هي نهر تشيناب، ونهر جيلوم، ونهر السند، في باكستان. ويؤكد الخبراء أن تداعيات تعليق اتفاقية نهر السند ستكون وخيمة العواقب، خصوصًا في حالة اتخاذ نيودلهي قرارًا عمليًا بوقف تدفق المياه، كون رد فعل المؤسسة العسكرية الباكستانية التي تقود المشهد السياسي والعسكري في باكستان سيكون موجعًا ودمويًا، باعتبار أن وقف تدفق المياه يُعد بمثابة إعلان حرب مائية نووية.
إلا أن خبراء مختصين بالأمن المائي في منطقة جنوب آسيا، يؤكدون أن الهند لا تستطيع وقف تدفق هذه الأنهار على الفور، لأن ذلك غير ممكن من الناحية الفنية وغير مستدام اقتصاديًا، ويحتاج لكثير من الوقت لتنفيذه على أرض الواقع، باعتبار أن وقف التدفق سيستغرق إنشاء بنية تحتية قادرة على ذلك لعقد من الزمن؛ إلا أن تنظيف “الطمي” قد يُستخدم لإحداث فوضى في مجرى النهر على المدى القصير.
فيما اعتبر مراقبون أن الإجراء الهندي كان بمثابة رسالة للداخل الهندي لاحتواء الغضب الشعبي بعد حادثة بهلجام، وفي نفس الوقت يُعد القرار رسالة مباشرة للمؤسسة العسكرية الباكستانية حول جدية صُنّاع القرار في حزب بهارتيا الشعبي الهندوسي باتخاذ خطوة أكثر إيلامًا ضد إسلام آباد من إسقاط طائرة باكستانية أو ضرب مواقع للنشطاء داخل الأراضي الباكستانية.
وتقع منطقة كشمير المتنازع عليها شمال غرب الهند وشمال شرق باكستان وجنوب غرب الصين في وسط آسيا، كما عُرفت تاريخيًا على أنها المنطقة السهلة في جنوب جبال الهملايا من الجهة الغربية.
وقالت صحيفة “تلغراف” البريطانية إن تعليق الهند لمعاهدة المياه الرئيسية مع جارتها باكستان سيؤدي لتصعيد خطير، حيث اعتبرته إسلام آباد على الفور إعلانًا للحرب.
وشهد نهر السند ولادة إحدى أقدم الحضارات وأكثرها غموضًا على وجه الأرض، وأوقف تقدم الإسكندر الأكبر. وتعد الاتفاقية أكثر أهمية لدول المصب، باكستان؛ كونها مسألة حياة أو موت، لأنها “شريان الحياة” لباكستان في حياتها الزراعية والغذائية.
ودارت معارك بين الهند وباكستان على المياه منذ استقلالهما عام 1947، لأن الحدود التي نشأت عن التقسيم قطعت نهر السند الذي تمركزت دولة باكستان الجديدة حوله، وتعتمد عليه للحصول على المياه خارج موسم الأمطار، كما قطعت 5 من روافده الرئيسية، وهذا أحد أسباب اندلاع الحرب بين البلدين فورًا على كشمير التي يتدفق عبرها نهر السند قادمًا من الصين.
قرار رئيس الوزراء مودي تعليق المعاهدة يمثل تصعيدًا غير مسبوق، لأن معاهدة المياه أصبحت مع الزمن جزءًا من شبكة معقدة من التفاهمات المكتوبة وغير المكتوبة التي نظمت العلاقات.
وأعلنت جماعة تسمي نفسها “جبهة المقاومة” مسؤوليتها عن الهجوم، ولا يمكن تأكيد أن هذه الجبهة تُعد فرعًا من جماعة لشكر طيبة، وقد ربط البيان هذه الهجمات بمنح آلاف تصاريح الإقامة للهنود، مما يسمح لهم بالعيش والعمل في إقليم كشمير. ولم يُعرف أي نشاط أو ظهور لجبهة المقاومة التي أصدرت البيان.
ولا تُعد حادثة “بهلجام” المروعة معزولة عن سياق طويل من التصعيدات المتكررة بين البلدين، على الأخص في كشمير، وهو ما يعيد إلى الأذهان أحداث فبراير 2019، حين قُتل أكثر من 40 جنديًا هنديًا في هجوم استهدف قافلتهم في كشمير، فردّت الهند حينها بغارات جوية داخل الأراضي الباكستانية.
من جديد، تُقرع طبول الحرب بين الهند وباكستان، وسط دعوات متصاعدة لضبط النفس، وعدم المغامرة بحرب مدمرة بين النوويتين؛ ومعلومات شبه مؤكدة أن أصابع الجنود في البلدين على الزناد لإطلاق الرصاصة الأولى.
والسؤال: ماذا بعد حادثة “بهلجام الكشميرية”؟ وهل الانفجار في بلاد الهند والسند قادم؟ وهل تطرق حرب المياه “النووية” أبواب القارة الهندية؟
محلل مختص في القارة الهندية