في ظل سعي المملكة العربية السعودية نحو تمكين الإنسان وبناء الاقتصاد المعرفي ضمن رؤية 2030، تبرز الجامعات كمراكز محورية لصناعة العقول وصياغة المستقبل. غير أن هذا الدور الحيوي يصطدم أحيانًا بظواهر تشوه جودة الأداء الأكاديمي وتُفرغ بعض الالقاب العلمية من محتواها الحقيقي، ولعلّ من أبرز تلك الظواهر ما يمكن تسميته بـ”التخمة الأكاديمية”، حيث تتضخم أعداد الحاصلين على الالقاب العلمية العليا دون أن يوازيها أثر ملموس في التعليم أو المجتمع أو الاقتصاد.
لم تعد الترقية الأكاديمية، في بعض السياقات، انعكاسًا لنضج معرفي أو إبداع بحثي أو خبرة تعليمية ثرية، بل أصبحت في حالات محددة طريقًا للهرب من التقييم أو التحصّن خلف لقب (أستاذ دكتور) لا يمثّل بالضرورة تفوقًا فعليًا. كما ساهم التسابق الشكلي على الترقيات في ترسيخ ثقافة النشر من أجل الترقية، لا من أجل توليد المعرفة، فأُنتجت آلاف الأوراق البحثية التي لم تغادر أدراج المجلات، ولم تنعكس على المقررات والمناهج أو سوق العمل أو تطوير السياسات. وما زاد الأمر تعقيدًا، أن بعض البيئات الجامعية، لا سيما في الجامعات الناشئة، تعاني من غياب التقاليد الأكاديمية الراسخة والاعراف التي تحمي مفاهيم القيم العلمية، ما أتاح لأنماط من الشللية، والتراتبية غير المعرفية، والتكتلات الدفعيّة أو المناطقية أن تلعب أدوارًا تفوق أثر القيم العلمية.
ولأن التشخيص وحده لا يكفي، فإن معالجة هذه التخمة تتطلب حلولًا ذكية قابلة للتطبيق، لا تصطدم بالبنية المؤسسية ولا تثير مقاومة حادة، بل تسلك طرق الإصلاح بالتدريج والتأثير الهادئ والعميق. ويمكن تبنّي نموذج “الجامعة الثالثة” الذي أثبت نجاحه في هولندا وسنغافورة، وهو نموذج لا يجعل الجامعة مركزًا للتدريس والبحث فحسب، بل شريكًا في التنمية من خلال تفعيل الشراكات بين الأكاديميات وسوق العمل والقطاع الحكومي. هذا النموذج يقتضي إعادة تعريف دور الأستاذ الجامعي ليصبح مشاركًا في المشروعات التطبيقية، لا مجرد ناقل للمحتوى.
ومن الحلول العملية أن يتم ربط الترقية الأكاديمية بمؤشرات أداء مركبة تشمل الإنجاز البحثي، وجودة التدريس، والأثر المجتمعي أو الصناعي. وهذا ما تطبقه جامعات مرموقة مثل ETH في سويسرا، حيث لا يُمنح اللقب العلمي الأعلى دون دليل على إسهام فعلي في تطوير المعرفة، أو توظيفها في بيئة إنتاج حقيقية، أو تفعيلها في سياسات عامة. ويمكن محاكاة هذه التجربة عبر تصميم نماذج تقييم جديدة تعتمد على “دليل الأثر”، وليس فقط “عدد الأوراق”.
ولتفعيل هذا التوجه دون صدام، يمكن استحداث مسارات مزدوجة للترقية، أحدهما بحثي تقليدي، والآخر تطبيقي يعتمد على الإنتاج المعرفي القابل للاستخدام، مثل تطوير منصة تعليمية، أو تصميم مقرر رقمي تفاعلي، أو قيادة مشروع استشاري مع جهة وطنية. هذا المسار يمكنه أن يعيد الاعتبار للمبادرات الريادية والفكر التطبيقي، ويكسر احتكار البحث النظري لمسارات الترقية.
وتبرز فكرة “الزمالة الصناعية” كخيار عملي لتجسير الفجوة بين الأكاديميات والمجتمع، حيث يُمنح الأستاذ الجامعي إجازة مهنية للعمل لفصل دراسي أو عام في مؤسسة صناعية أو حكومية داخل مجاله، يعود بعدها محملًا بخبرة حقيقية تنعكس على تدريسه وتطويره المهني. هذا النظام مطبّق بنجاح في جامعات كندية وألمانية، ويمكن تصميم نموذج سعودي خاص يتواءم مع السياق المحلي.
ولا تكتمل معادلة الإصلاح إلا بإعادة النظر في مفهوم التميز الأكاديمي نفسه، إذ لا يجوز أن تُمنح بدلات التميز لمن لا يقدم إنتاجًا علميًا سنويًا على الأقل، أو لا يسهم في تطوير برامجه التعليمية، أو لا يواكب مستجدات تخصصه. لا تميز بلا اجتهاد، ولا بد من ربط الامتياز بالممارسة، لا بالرتبة.
ولأننا في عصر الاقتصاد المعرفي، فإن تحفيز ريادة الأعمال المعرفية من داخل الجامعات بات ضرورة، لا ترفًا. ويمكن تخصيص نقاط إضافية في ملفات الترقية لمن يحوّل أفكاره إلى مشروعات، أو يطلق منتجات تعليمية، أو يشارك في تأسيس شركات ناشئة تستفيد من بحثه. هذا التوجه ينسجم مع طموحات التحول الوطني ويعزز ثقافة العطاء الاقتصادي من داخل المؤسسات الأكاديمية.
إن المعضلة ليست في كثرة الألقاب، بل في قلّة الأثر. والمطلوب ليس كبح الطموح العلمي، بل صيانته من أن يتحول إلى شكل بلا مضمون. وإذا أردنا أن تُسهم جامعاتنا في رفع مستوى كفاءة التعليم، وجودة المخرجات، وتماهي المعرفة مع حاجات السوق، فعلينا أن نربط الترقية بالأثر، واللقب بالممارسة، والتعليم بالحياة. هكذا فقط يصبح الأستاذ الجامعي رافعة حقيقية لرؤية 2030، لا مجرد حامل لقب.
هذه الحلول ليست مثالية فحسب، بل قابلة للتطبيق بأدنى درجات المقاومة إن أُديرت بحكمة ومرحلية. وهي نداء لوزارة التعليم والجامعات ومجالس الأمناء بأن يجعلوا من الترقية الأكاديمية نقطة انطلاق لا نهاية، ومن اللقب العلمي منصة للأثر لا جدارًا للاتكاء، ومن التعليم العالي محرّكًا للتنمية لا مجرد وظيفة للنخبة. إن الإصلاح الجاد لا يبدأ من حذف الألقاب، بل من إعادة تعبئتها بالمعنى والجدوى والأثر.
@DrAbdullah1971
قرأت مقال الدكتور عبدالله البريكي المعنون بـ”التخمة الأكاديمية”، وأنا في طور تحكيم لبعض طلبات الترقية الأكاديمية في جامعاتنا المرموقة. وأقولها بكل صراحة: لم أجد في المقال انعكاسًا دقيقًا لواقعنا الأكاديمي، بل وجدت اختزالًا فيه شيء من التعميم الذي قد يُفهم على أنه تقليل من شأن جهد كثير من الزملاء.
صحيح أن الترقية لا ينبغي أن تكون هدفًا بحد ذاتها، وأن البعض قد يسيء استخدام المسارات البحثية، لكن التعميم في هذا السياق غير منصف. نحن نعرف من واقعنا الجامعي أن هناك من يسهر الليالي على بحوثه، ويحدث مقرراته، ويواكب كل جديد في تخصصه. أن يُختزل هذا الجهد كله في عبارة مثل “اللقب لا يعكس نضجًا معرفيًا بالضرورة” هو أمر فيه تجنٍ على كثير من الأكاديميين المخلصين.
أيضًا، القول بأن آلاف الأبحاث “لا تغادر أدراج المجلات” لا يصمد أمام حقيقة أن كثيرًا من هذه البحوث تُستشهد في رسائل، وتُبنى عليها مشاريع، أو توجه بوصلة التخصص. البحث العلمي ليس سلعة فورية، بل عملية تراكمية، وقياس أثره لا يكون في المدى القصير دائمًا.
أما الاقتراحات المستوردة مثل “الجامعة الثالثة” أو “الزمالة الصناعية”، فهي جميلة نظريًا، ولكن لا يمكن نقلها مباشرة من بيئات مثل هولندا وسنغافورة دون تهيئة تشريعية وثقافية ومالية حقيقية. جربت بعض الجامعات المحلية نماذج شبيهة، لكن التحدي دائمًا في البنية التنفيذية.
وفيما يخص التميز الأكاديمي، فليكن، نعم نحتاج لضبطه، لكن يجب أن لا تُطرح الفكرة وكأن غالبية من نالوا بدل التميز غير مستحقين. فيهم من أطلق مبادرات، وأشرف على مشاريع تطويرية، وشارك في لجان وطنية، بل وتجاوز دوره داخل أسوار الجامعة.
وفي الختام، أرى أن إصلاح منظومة التعليم العالي لا يتم بالتشكيك في كل ما هو قائم، ولا بتعميم التجاوزات، بل بدعم التجارب الجادة، وتفعيل الأنظمة القائمة، وتحفيز الممارسات النزيهة. وكما قال الدكتور حمد آل الشيخ في إحدى تصريحاته: “جودة التعليم العالي تراكم لا لحظة، ومسار لا محطة، وعمل مؤسسي لا فردي.”
نحن لا نرفض النقد، بل نرفض أن يُبنى على صورة جزئية يُراد لها أن تكون مشهدًا عامًا.
هذا ما نحتاجه لربط التعليم بسوق العمل والصناعة وان يكون هناك بينهما قاسم مشترك ومخرجات فعاله ناضجة للنهوض بالصناعة وسوق العمل.
تحياتي لك دكتور
د/عبدالله مبدع دائما.اتمنى لك كل الخير.
تشخيص رائع يا حبذا تتبعه الجامعات