حين نتأمل التحولات الجذرية التي يشهدها القطاع البيئي في المملكة، سنكتشف أن ما يجري يتجاوز مجرد تحديث للأنظمة أو زيادة في الغطاء النباتي. ما نشهده اليوم هو تحوّل فلسفي واستراتيجي عميق، يعيد تعريف موقع البيئة في الدولة، والمجتمع، بل وفي صياغة المستقبل ذاته.
فقد انتقلنا من مرحلة كانت فيها البيئة تُدار بوصفها ملفًا إداريًا محصورًا في الرصد والتنظيم، إلى مرحلة جديدة تنظر إلى البيئة بوصفها بنية حضارية شاملة، تمس كل مجالات الحياة، من الاقتصاد إلى الأمن، ومن الصحة إلى الهوية.
في قلب هذا التحول تأتي رؤية السعودية 2030، التي لم تضع البيئة على الهامش، بل أدرجتها في صلب المشروع الوطني. فحين نتحدث عن جودة الحياة، والاقتصاد الدائري، والمبادرات الكبرى مثل السعودية الخضراء ومشاريع نيوم والعلا، فإننا في الواقع نتحدث عن تصور جديد للعلاقة بين الإنسان والمكان.
الرؤية لم تطرح البيئة بوصفها مسؤولية وزارة فحسب، بل جعلتها مسؤولية دولة ومجتمع. بيئة تُبنى على الوعي، وتُدار بالفكر، وتُصاغ وفق منطق استراتيجي طويل الأمد، يتجاوز أفق السنوات الخمس إلى أفق السبعين عامًا وأكثر.
ففي المنظور الجديد، لم تعد البيئة شيئًا نحميه فحسب، بل أصبحت شرطًا من شروط السيادة الوطنية.
فحماية الموارد الطبيعية، ومكافحة التصحر، والتشجير الواسع، وتقليل الانبعاثات الكربونية — كلها لم تعد أهدافًا بيئية فقط، بل أصبحت سياسات استراتيجية تضمن الأمن الغذائي، والاستقرار المناخي، وتُعزز من مكانة المملكة إقليميًا ودوليًا.
من هنا يمكننا فهم مبادرات مثل الشرق الأوسط الأخضر بوصفها ليست فقط تعاونًا بيئيًا، بل إعادة تشكيل لدور المملكة القيادي في ملف المناخ والتنمية المستدامة.
هذا التحول المفاهيمي انعكس أيضًا في دور الكفاءات البيئية. لم يعد المطلوب هو (الوظيفة البيئية)بمعناها الكلاسيكي، بل أصبح الهدف هو العقل البيئي القادر على فهم البيئة كرؤية استراتيجية، لا مجرد مهمة إجرائية.
فنحن بحاجة إلى أن نربّي جيلاً يرى في البيئة امتدادًا لهويته وثقافته ومصيره، لا مجرد مساحة خضراء أو عبء تشغيلي. وهذا التحول يتطلب تحديثًا للمناهج التعليمية، وإدماجًا للقيم البيئية في الخطاب الإعلامي والثقافي، وتنشيطًا لدور المواطن في حماية النظم البيئية.
إنّ تشجير 10 مليار شجرة هدف طموح، لكنه لن يكون مستدامًا ما لم يُقابله تطوير فكري للعقل والوعي. فالتحول البيئي الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان: من طريقته في التفكير، وسلوكه اليومي، وعلاقته بالمكان.
البيئة في النهاية ليست قضية خارجية، بل هي مرآة لعلاقتنا بذواتنا، وبالزمن، وبالأرض التي نعيش عليها. وإذا أردنا لهذا التحول أن ينجح، فعلينا أن ننتقل من لغة التقارير إلى لغة القيم، ومن عقلية التجميل إلى فلسفة التجذّر.
ففي عالم يتسابق على الموارد ويعاني من اختلالات بيئية عميقة، تقدم المملكة اليوم نموذجًا جديدًا،
أن تكون البيئة ليست عبئًا على النمو، بل بوابة له.
أن تكون الاستدامة ليست عائقًا أمام التطوير، بل قاعدته.
أن تكون العلاقة مع الأرض علاقة شراكة، لا استغلال.
بهذا المنطق، تتحول (الوظيفة البيئية إلى رؤية بيئية)،
وتتحول رؤية 2030 إلى إعلان حضاري يقول للعالم:
التنمية لا تعني التضحية بالكوكب… بل العيش بانسجام معه.

0