حين تُعلن دولة عن نيتها زراعة عشرة مليارات شجرة، قد يتبادر إلى الذهن أنها حملة بيئية كبرى، أو ربما مغامرة تنموية طموحة… لكن ما لا يراه كثيرون أن السعودية، في هذه المبادرة، لا تزرع فقط أشجارًا في الأرض، بل تزرع فكرة في الوعي، وتؤسس لعلاقة جديدة بين الإنسان والمكان، وتبعث مشروعًا حضاريًا عميقًا يتجاوز الظاهر البيئي إلى جوهر النهوض.
منذ فجر التاريخ، لم تكن الشجرة كائنًا محايدًا في سرديات الحضارات، بل كانت دائمًا رمزًا لما هو أكثر من الحياة النباتية: كانت علامة على الاستقرار، ودليلًا على الوعي، وتجسيدًا لعلاقة متزنة بين الإنسان والأرض. النخلة في الجزيرة، والسنديان في جبال الشام، والزيتون في قلب القدس، ليست مجرد نباتات؛ بل شواهد على ثقافاتٍ تفاعلت مع بيئتها، فازدهرت، أو تجاهلتها، فاضمحلت.
لذا، فإن مشروع العشر مليارات شجرة لا يمكن قراءته كمجرد غرس، بل يجب أن يُقرأ كتحوّل فكري، يستدعي ثلاثية الحضارة كما شرحها مالك بن نبي: أفكار تولد في الذهن، ومشاريع تُجسّد الإرادة، وعلاقات تُنظّم التفاعل بين الأفراد والمؤسسات والبيئة. ومتى غابت هذه الثلاثية أو اختل توازنها، تحوّل المشروع – أي مشروع – إلى هياكل خاوية تُبهر في بداياتها، وتنهار في صمت لاحقًا.
فهل نملك اليوم الفكرة الواضحة التي تُؤسس لهذا المشروع؟ أم ما زلنا نُجاري منطق الأرقام فحسب؟ إننا لا نحتاج إلى غرس الشتلات فقط، بل إلى غرس فلسفة جديدة في ذهنية التخطيط البيئي، فلسفة تعترف أن الأرض تغيرت، والمناخ تبدّل، وأن الزراعة التي نجحت بالأمس قد تفشل غدًا إن لم نعد التفكير.
الأرض التي نغرس فيها اليوم تعاني من الإجهاد، من التصحر، من مواسم مطرية متقلبة، من تغير في نسب الأملاح في التربة. وهذا يعني أن الزراعة بالنسخ واللصق، أو بالتقليد والارتجال، لن تصنع مستقبلاً أخضر، بل قد تزرع فشلًا صامتًا في التربة لا تراه العين، وتغضّ عنه التقارير.
ولعل التهديد الأكبر لا يأتي من فوق، بل من تحت. حشرة صغيرة، كحفار الساق أو متسلق الهدال، كفيلة بإبادة ألف شجرة إن غاب الرصد، وإن فُقد التنسيق، وإن عُزلت المراكز البحثية عن الميدان. ففي مثل هذه التفاصيل تكمن هشاشة المنظومة، ويُختبر صدق المشروع. لأن الشجرة التي تموت بصمت تُسائل: أين الفكرة؟ أين المشروع؟ أين العلاقة التي تربط الناس، والخبراء، والحكومة، والطبيعة؟
ثم يأتي الخطر الخفي: الماء. في أرض تشح فيها الموارد المائية، وتُعاني من ضغط متزايد على المياه الجوفية، تصبح كل قطرة تُهدى إلى شجرة مسؤولية أخلاقية ووطنية. فهل كل شجرة تُروى بما يُحييها؟ أم أن بعضها يُسقى بما يُميت ما حولها؟ إن استنزاف الماء من أجل مجد بصري لحظة الغرس، خيانة للمستقبل الذي سيحاسبنا على الجفاف، لا على الصور.
وهنا يتكشّف الفرق الجوهري بين من يُدير مشروعًا بيئيًا كحملة مؤقتة، وبين من يبنيه كمنظومة حضارية. في الحالة الأولى، تُزرع الشجرة لالتقاط صورة. في الحالة الثانية، تُزرع لالتقاط أثر. وفي الأولى، يُقاس النجاح بعدد الغراس. أما في الثانية، فبمعدل البقاء، وكفاءة الري، ومردود التنوع الحيوي، وقدرة النظام البيئي على الاستمرار.
لكنّ الأمل لم يُقتل بعد. بل إننا في لحظة تاريخية يمكن فيها تحويل المشروع إلى نموذج عالمي رائد، إذا ما استُدعيت العقول، واستثمرت البيانات، واندمجت التقنية مع الأرض. نحتاج إلى خرائط وطنية حقيقية، لا ملفات أرشيفية. إلى تحليلات مناخية دقيقة، لا تخمينات موسمية. إلى شراكات ذكية مع القطاع الخاص، لا مقاولات تقليدية تزرع ولا تسأل، تُنهي العقود وتمضي دون أثر.
نحتاج إلى إعادة بناء العلاقة بين الحكومة، والقطاع، والمجتمع، عبر نماذج تعاون لا تفرّق بين المنفّذ والراعي والمراقب. كلهم يجب أن يكونوا جزءًا من فكرة واحدة، ومن مشروع واحد، ومن مسؤولية واحدة. فالأشجار لا تحيا بقرار وزاري، بل بعقد ثقافي واجتماعي طويل الأمد.
وهنا يأتي دور الثقافة. فلا مشروع بيئي ينجو في مجتمع لا يرى في الشجرة أكثر من ظل، أو زينة، أو وسيلة مؤقتة لتحسين المشهد. الشجرة لا تنمو من التربة فقط، بل من وعي الناس. من المدارس التي تُدرّسها، ومن الإعلام الذي يروّج لها، ومن السياسات التي تحميها، ومن القصص التي تُقال حولها في البيوت، والحدائق، والمجالس.
ولذا فإن نجاح مشروع العشر مليارات شجرة لن يُقاس بما كُتب في التقارير، ولا بما وُثق من صور جوية، بل بما ترسخ في وجدان الناس، وبما تغيّر في طريقة تفكيرهم، وبما بُني من علاقات فاعلة بين الإنسان والمكان والمؤسسة والبيئة. هي معركة وعي قبل أن تكون مشروع غرس.
وإن كنا جادين، فعلينا أن نكفّ عن سؤال: كم شجرة زرعنا؟ ونبدأ نسأل: كم شجرة بقيت؟ كم قطرة ماء حافظنا عليها؟ كم علاقة تأسست بين جهة بحثية وجهة تنفيذية؟ كم وعيًا تغير؟ كم سلوكًا تحوّل؟
لأن الشجرة التي تبقى حيّة، ليست التي نغرسها في الأرض فحسب، بل التي نغرسها في العقل، ونرعاها بالمعرفة، ونحميها بالثقافة. ولأن الحضارة، كما يقول مالك بن نبي، لا تُبنى إلا بفكرة تُجسّد في مشروع، ويقوم عليها نظام علاقات ناضج.
فإن كانت السعودية قد بدأت بالغرس… فالعالم يترقّب: هل ستُكمل الغرس بالفكرة؟ وتُحكمه بالمشروع؟ وتؤطّره بعلاقات مسؤولة؟ فإن فعلت، فإنها لا تُنبت أشجارًا فحسب، بل تُنبت حضارة.