في ظل تصاعد الأزمات البيئية عالميًا، تتركّز جهود البحث عن حلول مستدامة غالبًا على الأطر التشريعية، والابتكارات التقنية، والاتفاقيات الدولية. ومع ذلك، ثمة مصدر تأثير مهم لم يُستثمر بعد بالشكل الكافي، وهو التراث الثقافي والاجتماعي للمجتمعات، الذي لطالما شكّل الأساس الذي تنبني عليه علاقة الإنسان بالبيئة من حوله.
تشير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في تقريرها الصادر عام 2022 بعنوان “التراث الثقافي اللامادي وأنظمة الغذاء المستدامة”، إلى أن الممارسات التقليدية ساهمت تاريخيًا في الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية لدى مجتمعات السكان الأصليين والمجتمعات الريفية في مختلف أنحاء العالم. إلا أن السياسات البيئية الحديثة غالبًا ما تُغفل هذا الرصيد العميق من الحكمة البيئية المتجذرة في الموروث الثقافي، مفضّلة التركيز على التنظيم والتقنية.
وتعتبر البيئة كنتاج ثقافي
ففي مناطق مثل الجزيرة العربية، وجبال الأنديز، وإفريقيا جنوب الصحراء، لم تكن علاقة الإنسان بالطبيعة محكومة بالبقاء فقط، بل قامت على منظومات أخلاقية وقيم رمزية.
ففي ثقافة الصحراء العربية، على سبيل المثال، كان الإفراط في استغلال الأرض والماء يُعدّ مرفوضًا اجتماعيًا قبل أن تنشأ قوانين مكتوبة. هذا النموذج يُجسّد ما يُطلق عليه الباحث “جيرالد بيرينغتون” مصطلح “البيئية الغريزية”، وهو وعي بيئي أصيل نشأ من التفاعل المباشر مع أنظمة طبيعية هشّة.
ولتحقيق تحوّل عميق ومستدام في سلوك الأفراد تجاه البيئة، لا يكفي إطلاق حملات توعية أو تحديد أهداف لخفض الانبعاثات فقط. بل ينبغي استعادة المعنى الرمزي للطبيعة داخل السرديات الثقافية والممارسات اليومية.
وقد خلصت اليونسكو في تقريرها الصادر عام 2021 بعنوان “الثقافة من أجل التنمية المستدامة” إلى أن المجتمعات التي تدمج تراثها الثقافي في التعليم والسياسات العامة، تُظهر قدرة أعلى على التكيّف مع تحديات المناخ.
إن الفولكلور، والشعر، والأمثال، والتقاليد الشفوية، يمكن أن تتحول إلى أدوات فعّالة في خدمة البيئة. فحين يقول المثل الشعبي: “من قطع ظلّه، مات من حره”، فإن الرسالة تتجاوز الحكمة الشعبية إلى قانون أخلاقي ضمني لحماية الأشجار. ومثل هذه اللغة المتجذّرة في الذاكرة، غالبًا ما يكون تأثيرها السلوكي أقوى من اللوائح المكتوبة.
ومن هنا فهذه دعوة لإعادة تموضع الثقافة في الخطاب البيئي
إن دمج التراث المحلي في الخطاب البيئي لا يُعدّ عودة إلى الوراء، بل يمثل ما تصفه الفيلسوفة البيئية “فاندانا شيفا” بـ “الحكمة البيئية الأصيلة”، وهي مكون مكمّل لأنظمة الحوكمة الحديثة.
وعليه، أقترح ما يلي:
1. إطلاق مبادرات وطنية لتوثيق وإحياء الممارسات البيئية التقليدية، وتحويلها إلى موارد تعليمية تستند إلى المعرفة العلمية والثقافية.
2. دمج التراث البيئي المحلي في المناهج الدراسية، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة (SDGs).
3. إدراج البعد الثقافي ضمن التقارير الوزارية المقدّمة إلى مؤتمرات المناخ مثل مؤتمر الأطراف (COP)، بوصفه جزءًا من استراتيجيات التكيّف المجتمعي.
وفي الختام فالصراع البيئي ليس فقط بين التكنولوجيا والطبيعة، بل بين الذاكرة والنسيان.
وحيثما تتآكل الذاكرة الجمعية، تفقد البيئة أول حماتها لها.
وإذا كانت الأرض تبكي اليوم تحت وطأة الجفاف وتآكل الغابات والتدهور البيئي، فربما يكون صوت الأجداد، المتردد في أمثالهم القديمة، هو النداء لاستعادة التوازن.







جميل …