في سياق تربوي يشهد تحولات متسارعة، تبرز بعض التجارب المدرسية بوصفها نماذج حية لترسيخ ثقافة التميز، لا باعتبارها استجابة ظرفية لمتطلبات التقويم، بل ممارسة واعية تتجذر في بنية المؤسسة، وتتجاوز فكرة التصنيف نحو بناء مهني مستدام. وقد شكّل حصول مدرستنا الثانوية الحادية عشر بعد المائة بمحافظة جدة على مستوى التميز في التقويم المدرسي وفق معايير هيئة تقويم التعليم والتدريب تجربة دالة على هذا التحول البنيوي، لا بوصفه منجزًا نهائيًا، بل انطلاقة لمسار تطويري طويل النفس.
أساس هذه التجربة كان في التحوّل من الإدارة بالتوجيه إلى القيادة بالتشارك، إذ أُعيد تشكيل الفريق المدرسي بما يعزّز المسؤولية الجماعية، ويمنح المساحة للمبادرات، ويربط الأدوار بالأثر لا بالوظيفة. لم يُنظر إلى المعلمة على أنها منفّذة، بل شريكة في صياغة التوجهات وصناعة الحلول، مما أوجد بيئة مهنية يشعر فيها الجميع بامتلاك المشروع، لا مجرد العمل فيه.
وقد انعكست هذه المقاربة على العلاقة التربوية داخل المدرسة، حيث أُعيد بناء الصلة مع الطالبة على أسس من الاحترام والدعم والتمكين. لم تعد مجرد متلقية للمعرفة، بل أصبحت شريكة في التخطيط والتقويم، وفي التعبير عن احتياجاتها ومقترحاتها. هذا التحول أسهم في خلق مناخ مدرسي داعم، ترتكز فيه العملية التعليمية على التفاعل الإنساني، لا على الإجراءات فقط.
أما التقويم المدرسي فقد تحوّل من كونه أداة للقياس الخارجي إلى كونه محفزًا داخليًا للتأمل والتحسين. لم تُستخدم المؤشرات لتصنيف الأداء أو إصدار الأحكام، بل كمدخلات لتحليل الواقع وتوجيه القرارات. بهذا المعنى، أصبح التقويم وسيلة للتحسين المستمر، وأداة لبناء الوعي المؤسسي لا لتأكيد الإنجاز الظاهري.
رغم ذلك، لم تخلُ التجربة من تحديات. فقد واجهت المدرسة في بداياتها مقاومة من بعض الممارسات التقليدية، وتخوّفًا من التحول نحو مساءلة أكثر عمقًا. كما مثّل انتقال المدرسة لمبناها الجديد ، والكثافة الطلابية ، وتحديث البنية التحتية ، والبيئة المدرسية ودعمها بالتجهيزات التقنية والتعليمية تحديًا واقعيًا، تم تجاوزه عبر إعادة توزيع الأدوار، واستثمار الطاقات الكامنة، وتعزيز ثقافة المبادرة الذاتية. ساعد الحوار المستمر، وبناء الثقة، على تخفيف التوتر، وتثبيت القناعة بأن التميز ليس عبئًا إضافيًا، بل هو مسار يخفف من التكرار والارتجال.
أثبتت التجربة أن التميز لا يقوم على الجهود الفردية، بل على عمل مؤسسي منظم، وأن التحسين الحقيقي لا يتحقق بالقرارات المفاجئة، بل بالتطوير المتدرج. كما أظهرت أن جودة التعليم ترتبط بجودة البيئة النفسية والمهنية داخل المدرسة، وأن تمكين الطالبات والمعلمات شرط أساسي لبناء ثقافة أصيلة للتميّز.
ولضمان استدامة هذا النهج، لم يُترك التميز في دائرة المشاريع المؤقتة، بل جرى دمجه في البنية التشغيلية للمدرسة، عبر تطوير خطط مرنة، وبناء فرق نوعية، ومراجعة دورية للأثر. أصبحت الجودة جزءًا من الممارسة اليومية، والتقويم الذاتي عادة راسخة، والاحتفاء بالنجاحات محفزًا لا غاية.
ليست هذه التجربة وصفة مثالية، لكنها تقدم برهانًا على أن المدرسة حين تتحرر من ثقافة الاستجابة الشكلية، وتؤسس عملها على الشراكة والشفافية والتمكين، فإنها تتحول من مؤسسة لتقديم الخدمة إلى بيئة لصناعة التحول.