المقالات

الملحمة المعمارية السعودية

إنَّ العلاقةَ بين مكةَ المكرمةِ والمدينةِ المنورةِ علاقةٌ ربانيةٌ عُلويةٌ سماويةٌ فريدةٌ.
إنها نَـمَطٌ فَذٌّ من التجاوبِ بينَ المدنِ، والتآخي بينَ الأماكنِ.
يَنْزِلُ الوحيُ في مكةَ ثمَّ يستمرُّ في المدينةِ.
تبدأ الدعوةُ النبويةُ في مكةَ ثم تقوى وتشتدُّ في المدينةِ.
تنطلقُ العصبةُ المؤمنةُ الأولى من أزقةِ مكةَ لتبنيَ دَولةَ الإسلامِ العُظمى في المدينةِ.
يَجْهَرُ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ بفواتحِ دعوتِهِ على جبلِ أبي قبيسٍ بمكةَ، ثمَّ يلفظُ وصيتَهُ الأخيرةَ على فراشِهِ بالمدينةِ.
تتجاوبُ أصداءُ مكةَ في فجرِ الدعوةِ بقولِهِ تعالى: ((اقرأْ باسمِ ربِّكَ الذي خلقَ)) .. ويتردَّدُ في فجاجِ المدينةِ في أواخرِ النبوَّةِ قولُ المولى: ((لقد جاءكمْ رسولٌ من أنفسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عنتُّمْ حريصٌ عليكمْ بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيمٌ)).

وهكذا .. يَنْظِمُ ما بينَ المدينتَيْنِ خَيْطٌ ذهبيٌّ من الإيمانِ والتوحيدِ والعقيدةِ والدعوةِ والحضارةِ.
ومَنْ تأمَّلَ الوَحْيَيْنِ وَجَدَ هذهِ الصلةَ ظاهرةً بيِّنةً ..
قال سبحانه: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً)).
و(مُدْخَلُ الصدقِ): المدينةُ، و(مُخْرَجُ الصدقِ): مكةُ، كما ذكرَهُ أهلُ التفسيرِ.

وفي الحديث: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّة، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ)).
وفي الحديث الآخرِ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدّ)).

نحنُ إذنْ أمامَ مدينتينِ عظيمتَيْنِ، تومئُ إحداهُما للأخرى أنْ: سلامٌ عليكِ إذْ كنتِ للوَحْيِ مَوْطِناً، وللنورِ منبعاً، وللنبوةِ مَدْرَجاً، وللمؤمنينَ مَثَابةً.
مَكَّتِي أُخْتُ طَيْبَتِي أُخْتُ قُدْسي
كلُّ مَنْ مسَّهُنَّ مسَّ اعتقادي

فأيُّ شرفٍ، وأيُّ بركةٍ، أَنْ تَنْتَهِضَ دولةٌ فتيةٌ لخدمةِ هاتين المدينتين المقدستين، وحرمَيْهِما الشريفين معاً؟
لقد أذِنَ الله لبلادِنا المباركةِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ أَنْ تكونَ الدولةَ التي قدَّمَتْ أجلَّ خدمةٍ للحرمينِ الشريفينِ منذُ كانا.

فأضخمُ توسعةٍ للمسجدِ الحرامِ شَهِدَتْها وتشهدُها المملكةُ.
وأجلُّ توسعةٍ للمسجدِ النبويِّ شهدتْها وتشهدُها المملكةُ.

ومعَ التوسعتينِ، كَمٌّ هائلٌ من البِنيةِ التحتيةِ، والخدماتِ المساندةِ، والمشاريعِ المصاحبةِ، والتطويراتِ المحيطةِ، وحلولِ المشكلاتِ، وتفعيلِ الإمكاناتِ، وتوظيفِ المعارفِ والمهاراتِ.

إنّها (ملحمةٌ معماريةٌ) بكلِّ ما تعنيهِ الكلمةُ، سواءً نظرتَ إلى (المعمارِ الماديِّ) أو إلى (المعمارِ المعنويِّ)، ففي كلٍّ منهما بصمةٌ سعوديةٌ واضحةٌ سيقفُ عندها التاريخُ طويلاً، طويلاً جداً.

هذهِ البصمةُ التي امتدَّتْ إلى المسجدِ الأقصى، حيثُ أسهمتْ مؤسسةٌ سعوديةٌ في ترميمِهِ بعدَ حريقِ سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعٍ وستينَ للميلادِ.

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى