في فسحةٍ من التأمل التاريخي، يتقاطع مسار رجلين فرّقت بينهما قرون من الزمن، وجمع بينهما همٌّ واحد: توثيق مكة المكرمة والكتابة عنها بوصفها ذاكرة الأمة ومهد النور.
الأول، هو محمد بن عبدالله بن أحمد الأزرقي، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وترك لنا مؤلفًا خالدًا هو “أخبار مكة وما جاء فيها من آثار”، والثاني هو عبدالله أحمد الزهراني، مؤسس صحيفة مكة الإلكترونية، أول صحيفة تحمل اسم المدينة في العصر الرقمي السعودي، والتي باتت اليوم مرآة يومية لنبض مكة وعمق رسالتها الحضارية.
• ولد الأزرقي في مكة، وعاش متبتلًا في خدمة التاريخ، مستنطقًا الآثار والروايات الشفوية، جامعًا في كتابه تفاصيل دقيقة عن بئر زمزم، وجبال مكة، والمنازل، ومسارات الحجيج، والمعالم التي نُسجت حولها قداسة المكان.
وقد استقى مادته من جدّه المؤرخ أحمد بن محمد الأزرقي، ما يجعل الكتاب عملًا عائليًا في حبّ مكة. وفي زمن كان الورق فيه نادرًا، والرحلة للعلم محفوفة بالمخاطر، اختار الأزرقي أن يُخلّد المدينة بالمداد، فسجّل لنا ما غاب عن غيره.
وبعد أكثر من أحد عشر قرنًا، يأتي عبدالله أحمد الزهراني، ابن مكة وابن هذا العصر الرقمي، ليؤسس صحيفة مكة، في وقت كان الإعلام الرقمي لا يزال في بداياته محليًا.
لم تكن تلك مجرّد تجربة صحفية، بل كانت رؤية لتجديد دور مكة في الوعي الإعلامي المعاصر، كما كانت أخبار مكة في الماضي أمانة على عاتق المؤرخين، أصبحت اليوم مسؤولية على كاهل الصحفيين والمثقفين.
أسس الزهراني الصحيفة، في بيئة جديدة، لكن تحت ذات السقف الرمزي الذي كان يكتب فيه الأزرقي: سقف مكة. وبدعم من القيادة الرشيدة، التي فتحت أبواب التمكين الرقمي، تحوّلت صحيفة مكة إلى منصة رائدة في التحليل والرأي والتغطيات، تنقل مكة من كونها مجرد حدث إلى كونها وعيًا ومرجعية وصورة للعالم.
ما جمع الأزرقي والزهراني ليس فقط اسم مكة، بل فكرة رسالية تقوم على أن هذه المدينة المقدسة لا تُكتب على الهامش، بل يجب أن تكون في صدر السطر، وأن تكون الذاكرة لا تراثًا فقط، بل مستقبلًا يُعاد صوغه في كل عصر.
كان الأزرقي يدوّن بمداد الورّاقين، والزهراني ينشر عبر لوحات المفاتيح ومنصات التواصل، لكن كلاهما أدرك أن أخبار مكة ليست مجرد وقائع، بل هي جزء من هوية الأمة وضميرها الحي.
تأتي رسالة الدكتور عبدالرحمن الحفظي – ذاكرة مكة المكرمة”، تحت زاوية “ثمرات كل شيء” – لتذكّرنا بأهمية الأزرقي، الذي شكّل أول بناء موثق لذاكرة مكة، وتفتح الباب للتأمل في تواصل هذا الدور من خلال الزهراني، الذي لم يكتفِ فقط بإطلاق صحيفة، بل أطلق معها رؤية لصحافة مسؤولة، متجذّرة في القيم، ومتحرّكة بالوعي الرقمي.
فإذا كان الأزرقي قد خلّد أخبار مكة في صفحات لا تزال تُقرأ، فإن الزهراني قد جعل منها نبضًا يوميًا يُتداول ويؤثر في الرأي العام، ويُسهم في تشكيل وعي المواطن والزائر.
الزاي.. زاوية الرؤية وعمق الذاكرة
وإذا كانت الأسماء ليست مصادفة، فإن الحروف فيها ليست عبثًا أيضًا.
في اسمي الأزرقي والزهراني، تبرز حرف “الزاي” كقاسم مشترك، لكنه في هذا السياق أكثر من حرف، بل زاوية رؤية يتقاطع عندها التاريخ بالمعنى، ويطلّ من خلالها العقل على مكة، لا بوصفها مدينة فقط، بل بوصفها فكرة ورؤية ورمزًا خالدًا.
فالـ”الزاي” في الأزرقي يفتح نافذة من المداد والحبر والورق نحو ذاكرة تنقّب في التفاصيل، تحرس الآثار وتستحضر الغابر بوقار المؤرخين، أما الـ”الزاي” في الزهراني، فيمتد عبر الأثير الرقمي، ليكتب الخبر ويصنع الرأي، ويحول مكة من مجرد حدثٍ مقدس، إلى صوتٍ يومي في الوعي الإعلامي الحديث.
هكذا يصبح حرف الزاي نقطة تقاطع بين مؤرخ ينقّب في النصوص، وصحفي ينقب في الوقائع، وكلاهما يرى مكة من زاويته الخاصة… زاوية “الزاء” التي لا تبهت.
إنه حرف المفارقة والامتداد، فمن الأزرقي الذي كتب أخبار مكة بمداد الذاكرة، إلى الزهراني الذي أسّس صحيفة مكة بلغة الحاضر، يبقى الحرف ذاته مُحمّلًا بالرسالة، ومتّصلًا بمكانٍ لا يشيخ، ولا يغيب.
خاتمة: زمنان.. ورسالة لا تنتهي
بين الأزرقي والزهراني، زمن طويل تغيّرت فيه الوسائل، لكن لم تتغيّر الرسالة: أن تكون مكة في صدارة التاريخ، وصدارة الإعلام، وصدارة الوعي.
وما يلفت الانتباه أن الصدفة لم تكن لغوية فحسب، بل دلالية أيضًا، حين نتأمل في الأسماء:
محمد بن عبدالله أحمد الأزرقي وعبدالله أحمد الزهراني، فكلاهما يجمعهما تسلسل الاسم “عبدالله أحمد”، وكأن هذا الامتداد الرمزي في الاسم لم يكن عبثًا، بل رسالة توارثتها الأجيال في حب مكة وخدمتها؛ فالأسماء تلتقي عندما تتشابه الرسالات، وتتوحد القلوب حين تتوحد البوصلة: مكة.
وبات عبدالله أحمد الزهراني، في نظر المكيين، ملهَمًا للأجيال، ورمزًا من رموز الإعلام السعودي، بما حمله من شغفٍ أصيل، ورؤية وطنية رسالية أعادت لمكة حضورها اللغوي والإعلامي في العصر الرقمي.



من “أخبار مكة” إلى “صحيفة مكة”
عنوان جميل لكاتب مُجيد في إبداعاته وكتاباته، فيه شبه وتشابه بين الماضي والحاضر، بين اختيار الأسماء واختيار المكان، وهو عنوان يلفت الانتباه ويُجسّد إبداعًا من إبداعات التاريخ.
لمدينة مقدسة مثل مكة المكرمة مكانة راسخة في القلوب، فهي قبلة المسلمين، ومدينة الطهر والقداسة. وكاتبنا الحبيب، الأستاذ الدكتور عايض، له تجليات تجمع بين العلم بتاريخ مكة – وهو موضوع رسالته العلمية – وبين ثقافته الإبداعية. فقد أجاد وأفاد، وقدم لنا صورة تاريخية جديرة باهتمام الباحثين عن تاريخ مكة.
أما الأستاذ عبدالله الزهراني، فقد بنى لنا صرحًا إعلاميًا ومنبرًا ثقافيًا يفتخر به أبناء العاصمة الإسلامية، قبلة الأمة المحمدية، إذ أسس صحيفة “مكة الإلكترونية” لتصبح منبرًا ثقافيًا وإعلاميًا ينافس على الصدارة في ميادين العلم والأدب والمعرفة.
شكرًا لك أستاذ فلسفة التاريخ، بل أقولها صراحة: أنت التاريخ، والتاريخ أنت (أبا محمد)