المقالات

*القرن الواحد والعشرون… بحمد الله بدأ من هنا*

حين هبطت طائرة ولي العهد في واشنطن، ثم عادت به إلى الرياض، بدا المشهد أكبر من زيارة، وأعمق من بروتوكول. كانت لحظة تُعاد فيها هندسة اتجاه القرن؛ لحظة أعلنت أن المملكة لم تعد تطرق أبواب القوة، بل أصبحت أحد مفاتيحها.

في الشارع العربي والإسلامي ظهر شعور يصعب تلخيصه بكلمات. شعور بأن الدولة التي تحمل الحرمين وتمسك ببوابة آسيا وأفريقيا، لم تعد مجرد لاعب إقليمي، بل مركز اتزان يُريح المنطقة ويمدّ العالم بطاقة طمأنينة. ومن الخليج إلى جاكرتا، رُفع الرأس بفخر هادئ: البلاد التي صدّرت النفط عقودًا، تستعد اليوم لتصدير شيء أثمن… عناصر المستقبل نفسها.

والذي خرج من واشنطن لم يكن إعلان نوايا؛ كان خريطة طريق لمشروع حضاري.

أول ملامحه جاء من المعادن الأرضية النادرة. تلك العناصر السبعة عشر التي تُشغّل محركات السيارات الكهربائية، توربينات الرياح، الرادارات، البطاريات، الطائرات المسيّرة. العناصر التي جعلت الصين تمسك برقبة التكنولوجيا لسنوات. في واشنطن، وُقّع اتفاق ملزم بين معادن وMP Materials بدعم تمويل كامل من وزارة الحرب الأمريكية، لبناء أول مصفاة سيادية من نوعها في الشرق الأوسط، بحصة سعودية لا تقل عن 51%. للمرة الأولى يظهر مركز معالجة بديل لهيمنة الصين، بوابة جديدة تمر عبر الرياض لا بكين. احتياطيات المملكة من النيوديميوم والديسبروسيوم واللانثانوم والليثيوم تتحول إلى ركيزة لصناعة القرن، لا مجرد كنز مدفون.

ثم جاءت الرقائق المتقدمة. واشنطن فتحت بابًا لم يفتح لغير المملكة: تصدير أكثر من 18 ألف رقاقة Blackwell GB300 من Nvidia إلى “هيومين”. صفقة كانت مستحيلة قبل أشهر بسبب القيود الصارمة، أصبحت اليوم محورًا في مكالمة أرباح Nvidia، حيث ذُكرت “هيومين” ثلاث مرات. هذه ليست شحنة؛ هذا اعتراف بأن السعودية أصبحت شريكًا في صناعة الذكاء الاصطناعي لمنطقة كاملة. الهدف وُضع بوضوح: 6% من طاقة الحوسبة العالمية بحلول 2034. هذه نسبة كانت تُحجز تاريخيًا لدول عظمى، والآن تُبنى لها مراكز بيانات بقدرة 500 ميغاواط في نيوم والرياض.

وفي العمق، تتقدم السعودية بقدراتها العلمية. نموذج “علّام” بلغ المرتبة الأولى عالميًا في اللغة العربية، ببيانات تتجاوز 500 مليار كلمة، وفريق وطني يتجاوز 400 متخصص. لأول مرة يدخل العالم العربي نادي تطوير النماذج اللغوية العملاقة بدل استهلاكها. هذه ليست إنجازات تقنية فقط؛ إنها أول طبقة وعي رقمي تنتجه المنطقة بلغتها وثقافتها.

وتتحرك الطاقة النووية السلمية كعصب لهذه البنية. مفاعلات صغيرة SMRs ستوفر كهرباء مستقرة على مدار الساعة لنيوم وأكساجون، وتشغّل مصانع المعادن الثقيلة، ومراكز البيانات التي تستنزف طاقة تعادل مدنًا صغيرة. الطاقة هنا ليست مسانِدة؛ هي قلب المنظومة كلها.

وفي الجانب الأمني، تظهر صفقات F-35 والتعاون الدفاعي الجديد كامتداد طبيعي لهذا التحول. حين تُصنف دولة كـ“حليف رئيسي خارج الناتو”، فهذا يعني أن واشنطن ترى فيها شريكًا طويل الأمد، وأن حماية سمائها جزء من استقرار المنطقة. الجيش السعودي يتطور بمنطق جديد: تكنولوجيا متقدمة، سيادة أعلى، قدرة ردع تُريح الخليج كله.

هذه المكوّنات المختلفة تلتقي في نقطة واحدة:
السعودية لا تبني قطاعًا واحدًا… بل بُنية حضارية متكاملة.
المعادن تغذي المصانع، المصانع تغذي الحوسبة، الحوسبة تغذي المدن، الطاقة تُشغّل الجميع، والدفاع يحمي الجميع. دورة إنتاجية ومعلوماتية واقتصادية تدور داخل إطار وطني واحد.

والأثر الاجتماعي حاضر بقوة، جيل جديد سيكبر وهو يعمل في هندسة المعادن الثقيلة، برمجة الرقائق، تصميم المفاعلات، إدارة مراكز البيانات. رواتب جديدة، كرامة مهنية جديدة، مسارات حياة لم تعرفها المنطقة من قبل. ومع ارتفاع الدخل النوعي، تتشكل طبقة وسطى مختلفة: طبقة تصنع لا تستهلك، تبحث لا تنقل، تنتج المعرفة بدل أن تستوردها.

وعلى الخليج والعالم العربي والإسلامي يمتد هذا التحول كثقل يحفظ التوازن. قوة سعودية لا تتوسع على حساب أحد، بل تخلق فضاءً آمنًا في إقليم أنهكته الصراعات. دولة حين تشتد، يهدأ جوارها. شاب عربي سيجد في الرياض ونيوم فرصة كانت تُطلب سابقًا على أبواب الغرب، والعالم الإسلامي سيشعر أخيرًا أن له صوتًا في المعادلة التقنية العالمية.

وعلى العالم كله تتغير الحسابات.
أوروبا تحتاج المعادن السعودية لاقتصادها الأخضر.
أمريكا تحتاجها لسلاسل التوريد ولسلاحها المتقدم.
الصين تواجه لأول مرة منافسًا مستقراً يمتلك الجغرافيا والمال والإرادة.
والشركات العالمية ترى في الرياض مكانًا يجتمع فيه ما تريده كلها: الطاقة، الاستقرار، السيولة، والسوق.

لكن الطريق طويل، يحتاج تعليمًا يخرّج مهندسي الرقائق والمعادن، يحتاج إدارات تعمل بإيقاع واحد، يحتاج بنية صلبة تستقبل هذا التوسع الهائل، ويحتاج جهدًا وطنيًا يسمح للرؤية بأن تتحول إلى ممارسة يومية.

هنا يظهر أثر المدرسة التي قادها الأمير عبدالعزيز بن سلمان في وزارة الطاقة؛ مدرسة تجعل الإنسان محور الأداء، والمنظومة إطارها الصلب، والتحليل لغة القرار. بيئة تستيقظ فيها طاقة الموظف، وتتحول فيها الكهرباء والغاز والنفط والتعدين إلى شبكة واحدة تُدار بعقل واحد. هذه الروح انتقلت إلى قطاعات أخرى، وأصبحت نَفَسًا عامًا للاقتصاد الجديد.

وحين تجتمع هذه الروح مع طموح ولي العهد، يأخذ المشهد شكله الكامل: رؤية واسعة، منظومات تعمل بدقة، إنسان يشارك في البناء، وبلد يعرف أن مستقبل القرن لا يُؤخذ، بل يُصنع.

فحين تمتلك المملكة مفاتيح المعادن، ومفاتيح الطاقة، ومفاتيح الذكاء…
يتغيّر الشرق الأوسط كله، وتتحول مكانة العرب والمسلمين في العالم إلى موقع لم يعرفوه منذ قرون.

والرحلة ما زالت في بدايتها؛ لكنها تسير على أرض صلبة، وبخطوات تُبنى كل يوم.
ومع كل ما تحقق… لا يزال القادم أعظم، بإذن الله.

*هذا هو القرن الواحد والعشرون. وبحمد الله… بدأ من هنا.*

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرا دكتور عبدالقادر على هذا المقال الرائع
    وحفظ الله مليكنا وولي العهد ودام الله عز المملكه وجعلها في امن وامان 🌹🌹❤️❤️

اترك رداً على Mohammed Al-Zahrani إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى