المقالاتعام

التاريخ بين قلم المؤرخ وريشة الأديب

منذ أن بدأ الإنسان يدوّن ذاكرته، ظلّ التاريخ ساحةً يتقاطع فيها صوتان: صوت المؤرخ الذي يلتزم حدود الوثيقة، وصوت الأديب الذي يتجاوزها بحثًا عن المعنى. بين دقة الحادثة وعمق التأويل، تنشأ إشكالية عتيقة وحديثة في آنٍ معًا: من يملك الحكاية؟ ومن الأحق برواية الماضي: من يبحث عن الحقيقة، أم من ينفخ فيها من روحه ويعيد خلقها بلغة الشعور والرمز؟

حين يكتب المؤرخ، فإنه يشبه من يزيح الغبار عن مرآة الماضي، باحثًا عن الحقيقة كما وقعت، موثقًا للحدث دون أن يُدخل عاطفته أو رؤيته الخاصة. أما حين يكتب الأديب، فالأمر مختلف تمامًا. إنه لا يكتفي بالحقيقة، بل يتعامل معها كخام أولي، يعيد تشكيلها وفق رؤيته، يزرع في ثناياها نبضًا إنسانيًا، ويجعل من الماضي سردية تتجاوز الوقائع إلى التأمل والرمز.

في قصة أحمس الأول، مؤسس الدولة الحديثة في مصر القديمة، يعرض المؤرخ المصري ما بين النقوش الهيروغليفية والمصادر التاريخية كيف قاد مقاومة الهكسوس واستعاد الأرض المصرية، موثقًا سنوات الحصار والصراع والانتصار. لكنه لا يمنحنا سوى صورة القائد العسكري الذي أدى واجبه ببسالة. على الجانب الآخر، حين تناول الأديب نجيب محفوظ مثلًا هذه الشخصية الفرعونية في رواية “كفاح طيبة”، رسم أحمس كبطل أسطوري يتجاوز ذاته، يقاتل لا فقط من أجل التحرير، بل من أجل حلم أبدي بالعدالة والكرامة، فصبغ القصة بنَفَس درامي، يجعل من الشخصية التاريخية رمزاً للحضارة في صراعها الازلي مع الغزاه.

وينطبق الأمر ذاته على يوليوس قيصر، القائد الروماني الشهير. كتب عنه المؤرخ الروماني سويتونيوس بأسلوب تقريري جاف في كتابه “حياة القياصرة”، وركّز على الصراعات السياسية والخيانات والاغتيال، مع محاولات تحليل نفسي لسلوك قيصر في ضوء حوادث واقعية. ولكن حين تناول وليام شكسبير شخصيته في مسرحيته “يوليوس قيصر”، لم يكن همّه إعادة بناء الحدث فحسب، بل كشف طبيعة الطموح البشري، والتآمر، والخيانة، وأثر الكلمة والخطابة على الجماهير. تحوّل قيصر من قائد عسكري إلى رمز للسلطة المغدورة، وتحول بروتس من سياسي إلى مثال للفضيلة المأزومة، مما جعل المسرحية تأسر القارئ المعاصر أكثر مما تفعل الوثيقة التاريخية.

أما كليوباترا، فهي المثال الأشهر لاختلاف الرؤية بين المؤرخ والأديب. كتب عنها المؤرخ بلوتارخ بوصفها امرأة ذكية ذات نفوذ، وظّفت جمالها وعقلها في خدمة الحكم والسياسة، وسلط الضوء على تحالفها مع يوليوس قيصر ثم أنطونيوس، وانتهائها المأساوي. غير أن الأدب، خاصة في التصوير السينمائي والشعري، لم يرها إلا فاتنة فاتكة، ملكة عشق لا ملكة حكم، وجعل منها أسطورة تفيض أنوثة، وشخصية مأساوية أقرب لميدوزا منها إلى سيدة عرش. تحولت في الأدب إلى امرأة تذوب حبًا حتى الموت، بينما في التاريخ هي امرأة تقرأ عدة لغات، وتحكم بلدًا مضطربًا في زمن بالغ التعقيد.

هكذا يبدو الفرق بين الأديب والمؤرخ. المؤرخ يصف الحدث كما كان، بالأسماء، والتواريخ، والوقائع، ملتزمًا بما تتيحه الوثائق والمصادر، يخضع لمنهجية صارمة. أما الأديب، فيُدخل النَفَس الإنساني إلى الحدث، يضفي عليه عاطفة ووجهة نظر وتأويلًا، وقد يتعمّد أحيانًا أن يعارض ما هو ثابت، في سبيل استخراج دلالة أعمق. المؤرخ يكتب عن الإنسان في سياقه التاريخي، بينما الأديب يكتب عن الإنسان في ضعفه، وحلمه، وشكّه، وحيرته.

وربما نحن، كمجتمعات تتأرجح بين البحث عن الحقيقة والانجذاب إلى الحكاية، لا يمكن أن نستغني عن أيٍ منهما. فالمؤرخ يمنحنا وعيًا رصينًا بالماضي، ولكن الأديب يجعلنا نشعر به، نرتجف لألمه، ونطمح عبره إلى مستقبل مختلف. في زمن الرقمنة والسرد البصري، بات التكامل بين الاثنين لا مجرد ضرورة معرفية، بل ضرورة إنسانية، إذ لا يمكننا أن نفهم التاريخ ما لم نُحِسّه، ولا أن نُحِسّ به ما لم نفهمه.

أ.د فتحية بنت حسين عقاب

جامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. اتفق مع الكاتبة مع أهمية الأسلوب للسرد المعرفي وفي التراث نماذج ك المبسوط الحنفي والحاوي الشافعي وشرح مختصر الروضة الحنبلي وتجريد التوحيد للمقري وسيرة النبي للحضرمي وفي الأعلام السيوطي والونشريسي وابن خلدون وابن القيم والأعشى والبشير الإبراهيمي وأحمد الطيب ووو والكاتبة تتناول مقومات البناء لنموذج علمي ممتع مؤثر .

  2. اتفق مع الكاتبة في أهمية الأسلوب للسرد المعرفي وفي التراث نماذج ك المبسوط الحنفي والحاوي الشافعي وشرح مختصر الروضة الحنبلي وتجريد التوحيد للمقري وسيرة النبي للحضرمي وفي الأعلام السيوطي والونشريسي وابن خلدون وابن القيم والأعشى والبشير الإبراهيمي وأحمد الطيب ووو والكاتبة تتناول مقومات البناء لنموذج علمي ممتع مؤثر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى