المقالات

مكاتب العقار تتحول مجالس للمتقاعدين

في مشهد اجتماعي لافت ومثير للتأمل، باتت مكاتب العقار – لا سيما في الأحياء السكنية – تتحول تدريجيًا إلى “مجالس” غير رسمية للمتقاعدين، حيث يجتمعون فيها بشكل شبه يومي من بعد صلاة العصر وحتى صلاة العشاء، يتبادلون أطراف الحديث، ويتناولون القهوة والشاي، ويتبادلون الضحكات والتجارب، في أجواء تملؤها الألفة والأنس والذكريات.فهذه الظاهرة التي أخذت تتسع في عدد من المدن والأحياء السعودية، تعكس حاجة فئة المتقاعدين – وهي شريحة كبيرة وفاعلة في المجتمع – إلى مساحة اجتماعية حيوية يجدون فيها متنفسًا من روتين الحياة اليومية بعد تقاعدهم من أعمالهم التي شغلت جلّ أوقاتهم لسنوات طويلة. فغالبية المتقاعدين كما تعرفون يواجهون تحديًا مشتركًا بعد تقاعدهم يتمثل في وفرة الوقت وندرة الأنشطة. وكثير منهم يشعر بملل الجلوس في المنزل لساعات طويلة، خاصة مع غياب البدائل المناسبة مثل الأندية الاجتماعية أو المراكز المخصصة للمتقاعدين. ومن هنا، وجد بعضهم بالفعل ضالته في مكاتب العقار، التي فتحت أبوابها أمامهم – إما بدافع المجاملة أو برغبة حقيقية في إشراكهم في نشاطها. المفارقة الجميلة أن هذه المجالس العقارية لم تقتصر على القهوة والحديث، بل امتدت لتشمل فرصًا مادية حقيقية. فالمتقاعد الذي يمتلك شبكة علاقات وخبرة طويلة في الحياة، بات يُساهم في عمليات بيع أو تأجير العقارات، ويحصل في المقابل على عمولة أو “سعي” كما هو متعارف عليه. وبهذا، جمع بين “الوناسة” والمكسب، دون أن يشعر بثقل الالتزامات أو ضغط العمل. وقد أصبح لكل مجموعة من المتقاعدين مكتب معروف في حيهم، يجتمعون فيه بشكل يومي، حتى أن صاحب المكتب يفتقدهم في حال غيابهم، ويعدهم جزءًا لا يتجزأ من بيئة المكان. وإن كانوا من هواة الورق أو “الضومنة”، وجدوا أيضًا وقتًا للتسلية البريئة، بعيدًا عن الضجر أو العزلة.
إن ما نراه اليوم من هذا المشهد يعكس ظاهرة صحية وطبيعية تعبّر عن حاجة الإنسان للتفاعل الاجتماعي والانتماء بعد التقاعد. لكنها في الوقت نفسه تضيء على فجوة في البنية التحتية الاجتماعية، وهي غياب أندية أو مراكز اجتماعية مخصصة للمتقاعدين، توفر لهم بيئة ترفيهية وثقافية ورياضية منظمة، وتمنحهم فرصة للمشاركة الفاعلة في المجتمع. فأمام هذه الظاهرة، تبرز الحاجة الماسة إلى أن تلتفت الجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، خصوصًا وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، إلى أهمية تأسيس أندية أو مراكز نموذجية للمتقاعدين في مختلف المدن، تكون مجهزة بالأنشطة المتنوعة التي تناسب أعمارهم واهتماماتهم، وتُعيد لهم دورهم في المجتمع كموجهين ومستشارين وخبراء. كذلك على القطاع الخاص ان يساهم في دعم مثل هذه المبادرات والمشاريع من باب المسؤولية الاجتماعية. كما أن دعم القطاع العقاري في تعزيز هذه المبادرات غير الرسمية وتحويلها إلى شراكات اجتماعية ذات قيمة مضافة، قد يفتح آفاقًا جديدة في دمج المتقاعدين بشكل ذكي في حركة الاقتصاد المجتمعي.
ختاما ، اقول من مكتب عقار صغير في حي سكني، انبثقت فكرة عظيمة تُعيد للمتقاعدين دورهم في الحياة، وتمنحهم لحظات يومية من السعادة والتقدير. إنها ظاهرة تستحق الدراسة، والدعم، والتطوير.

• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

د. تركي بن فهد العيار

أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى