المقالات

جامعات حجر الطوب الأحمر

من الأقوال التي خلدها التاريخ قول الفقيه العراقي “أحمد الرفاعي”:

“خذ الحكمة أين رأيتها، فإن العاقل يأخذ الحكمة لا يبالي على أي حائطٍ كتبت، وعن أي رجلٍ نُقلت، ومن أي كافرٍ سُمعت.”

كما أن العبارة “الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها التقطها”، تعني أن المؤمن يبحث عن الحكمة أينما وجدها فيلتقطها، فهي كشيء مفقود يفتش عنه ليستفيد منه أينما عثر عليه. وهذه العبارة مأخوذة من الحديث الشريف، وتدل على أهمية طلب العلم من أي مصدر كان، وعدم التردد في الاستفادة من أي قول حكيم، سواء صدر من عالم أو جاهل.

شخصيًا، وفي سبيل العلم والتعلم والتقاط الحكمة، زرت العديد من المؤسسات العلمية حول العالم، ويعود ذلك أساسًا إلى بيئاتها التعليمية المتميزة، وأبحاثها المنتجة، ومكتباتها العريقة، وحدائقها المعرفية المثمرة، ومراكز الخبرة لديها، إضافة إلى تخريجها أساتذة وعلماء كبار حاز بعضهم على جوائز نوبل وغيرها من الجوائز العالمية.

لا يزال في الذاكرة مؤتمر الإحصاء الرياضي الدولي الذي حضرته بطلب من مشرفتي على الدكتوراه، وأُقيم هذا المؤتمر في جامعة شيفيلد، إحدى أفضل الجامعات البريطانية العريقة، ومن بين أفضل مئة جامعة في العالم. وهي واحدة من الجامعات البريطانية الست التي تُعرف بجامعات “حجر الطوب الأحمر”، وقد أُطلقت هذه الصفة على الجامعات التي بُنيت من الطوب الأحمر في المدن الصناعية المهمة في بريطانيا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وتشمل الجامعات الست الأصلية: جامعة برمنغهام، وجامعة بريستول، وجامعة ليدز، وجامعة ليفربول، وجامعة مانشستر، وجامعة شيفيلد.

في ذلك المؤتمر، التقيت عددًا من العلماء الكبار، منهم أبو الإحصاء اللامعلمي كما كان يُطلق عليه، البروفيسور “ديفيد ليندلي”، أستاذ الإحصاء الرياضي في جامعة ويلز في خمسينيات القرن الماضي. وكانت هذه المرة الثانية التي ألتقيه فيها، إذ كانت الأولى بتوصية من مشرفتي حيث زرته في منزله الريفي الجميل الواقع على قمة جبل في مدينة “ماي نهيد” جنوب بريطانيا.

وقد تخرّج على يديه عدد من أساتذة الإحصاء الرياضي في العالم، منهم الأستاذ الدكتور جلال بن مصطفى الصياد، رئيس قسم الإحصاء في كلية العلوم بجامعة الملك عبد العزيز، وأستاذي ومشرفي على الماجستير، ومنهم البروفيسور “محمد سميع الدين” أستاذ الإحصاء واختبارات الفروض في جامعة البنجاب، وعضو هيئة التدريس لاحقًا في قسم الإحصاء بكلية العلوم بجامعة الملك عبد العزيز. والجدير بالذكر أن العالم ليندلي كان أستاذ مشرفتي على الدكتوراه السيدة “سيلفيا لوتكنز”.

لقد تعلمت الكثير من ذلك المؤتمر، الذي كان الأول لي في بداية دراستي للدكتوراه، حيث عُرضت خلاله العديد من الأوراق العلمية على مدى ثلاثة أيام. وقد نظم القائمون على المؤتمر جولة سياحية، زرنا خلالها معالم مدينة شيفيلد، ومنها الحديقة الشتوية، وحدائق السلام، ومتحف النار، إضافة إلى كاتدرائية شيفيلد التي أُنشئت عام 1777م. وقد رافقني في هذه الزيارة زميل من ماليزيا كان يدرس علم المحاكاة، وهو أحد فروع الإحصاء الرياضي في جامعة ويلز.

من ذلك المؤتمر، أدركت أهمية المشاركة في المؤتمرات العلمية، ووجدت أن الطالب يمكنه تعلّم نظريات أعمق، واكتساب رؤى أوسع، عند مقابلة العلماء الكبار والأساتذة العظام الذين حصل بعضهم على جوائز عالمية، وساهموا بعلمهم الغزير في تقدم البشرية خطوات إلى الأمام.

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى