في ظل الثورة الرقمية وتنامي استخدام المنصات الصوتية، برز البودكاست كأحد أكثر الوسائط الإعلامية تأثيراً وانتشاراً في العالم. وتشير الإحصائيات إلى أن عدد مستمعي البودكاست عالمياً تجاوز 464 مليون مستمع في عام 2023، ومن المتوقع أن يتجاوز 500 مليون مستمع بحلول 2025، وفقاً لتقرير Statista. وفي السعودية، أظهرت دراسة صادرة عن مؤسسة Ipsos أن حوالي 67% من مستخدمي الإنترنت قد استمعوا إلى بودكاست على الأقل مرة واحدة شهرياً، وهو رقم يعكس مدى الانتشار الواسع لهذا الوسيط الإعلامي الحديث. ولعلّ أهم ما يميز البودكاست هو سهولة إنشائه وتنوع محتواه، ما جعله متاحاً لأي شخص، حتى لو لم يكن من خلفية إعلامية. يكفي أن يمتلك الشخص ميكروفوناً مناسباً وبرنامج تسجيل وبعض المهارات التقنية ليؤسس له قناة بودكاست يختار لها اسماً وشعاراً وربما موسيقى افتتاحية أيضاً. وهنا تكمن نقطة القوة والضعف في آنٍ واحد.
و في مقابل هذا التوسع الفردي، دخلت الجهات الرسمية والكيانات الإعلامية الكبرى هذا المجال بقوة، وأطلقت العديد من قنوات البودكاست التي تراعي المعايير الإعلامية والمهنية الصارمة. هذه الجهات تمتلك كوادر مؤهلة تشمل معدين محترفين، مخرجين صوتيين، خبراء في الاتصال، ومقدمين ذوي خبرة. ونتيجة لهذا التكامل، تأتي مخرجاتهم غالباً عالية الجودة من حيث المضمون، والإخراج، والتقديم، مما يجعلها أكثر تأثيراً وموثوقية لدى الجمهور. ومن أمثلة ذلك في السعودية بودكاست “فنجان” الذي يقدمه عبدالرحمن أبو مالح عبر شركة “ثمانية”، ويُعد من أشهر البودكاستات العربية، وبودكاست “السعودية بودكاست” الذي تنتجه هيئة الإذاعة والتلفزيون، وغيرها من النماذج التي تمثل البودكاست الاحترافي الهادف. و على الجانب الآخر، نلحظ أن الكثير من الأفراد قد أنشأوا قنوات بودكاست خاصة بهم، لكن المشكلة لا تكمن في دخولهم هذا المجال، بل في كيفية إدارتهم له. إذ إن بعضهم يفتقر إلى المهارات الأساسية في التقديم أو حتى اللباقة في الحوار، ناهيك عن ضعف الإعداد المسبق أو سوء اختيار الضيوف أو المواضيع، وأحياناً ممارسات غير مهنية كالمقاطعة المتكررة للضيف أو الجلوس غير المناسب أو اللغة الهزيلة. وقد رصدت دراسة لجامعة “إنديانا” الأمريكية أن أكثر من 60% من البودكاستات الفردية تتوقف بعد أقل من 10 حلقات، بسبب غياب التخطيط والالتزام، وهو ما يُعرف بظاهرة Podfade. ونظراً لأهمية البودكاست بوصفه وسيطاً إعلامياً ذا أثر عميق على الوعي المجتمعي والسلوك الثقافي والفكري، فإن من الضروري أن تضع الجهات المختصة معايير مهنية واضحة وملزمة لإنشاء قنوات بودكاست، تشمل:
– الحصول على ترخيص رسمي عند بلوغ عدد معين من الحلقات أو المتابعين.
– التقيد بـ أخلاقيات المهنة الإعلامية في الطرح واللغة والمحتوى.
– وجود حد أدنى من المؤهلات الإعلامية أو التدريب المعتمد للمقدمين.
– مراقبة المحتوى لضمان احترام ذائقة الجمهور وعدم نشر محتوى مضلل أو مبتذل.
فقد أصبح بالفعل البودكاست اليوم لا يقل شأناً عن البرامج الإذاعية أو المرئية التقليدية، بل ربما يتفوق عليها من حيث التأثير وسهولة الوصول.
خلاصة القول ، إن البودكاست يمثل اليوم منبراً جديداً للتعبير والتأثير، لكن بين المهنية والعشوائية خيطٌ رفيع يجب عدم تجاوزه. وحرصاً على سمعة الإعلام وجودة المحتوى واحترام المتلقي، فإن من الواجب إرساء قواعد واضحة تنظم هذا المجال، بما يحقق التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية المهنية. فالإعلام – مهما تطورت وسائله – سيظل رسالة سامية لا مكان فيها للاجتهادات المرتجلة أو الطروحات السطحية.
• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود






