قال مؤسس علم الاجتماع التونسي عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “إن الارتحال في طلب العلم، هو مزيد كمال في التعلم”.
والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة علماً وتعليماً ولقاء، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة.
لا يزال في الذاكرة عندما طلبت من المشرفة على دراستي للدكتوراه في كلية العلوم بجامعة ويلز قبل ثلاثة عقود ونيف، أن أقوم بزيارة عالم القرن وأبو الإحصاء اللامعلمي كما كان يُلقَّب البرفسور “ديفيد ليندلي”، أستاذ الإحصاء الرياضي في جامعة ويلز في خمسينيات القرن الماضي، في منزله الريفي في قرية “ماينهيد”، القريبة من مدينة برايتون في الجنوب البريطاني.
البرفسور “ديفيد ليندلي”، وعلى الرغم من مكانته العلمية الكبيرة، ونظرياته العديدة في مجال الإحصاء الرياضي، ومساهماته الكبيرة في اكتشاف علم الإحصاء اللامعلمي، إلا أنه لم يكن يحمل درجة الدكتوراه، وكان يشعر بعدم الارتياح عندما يسأله أي شخص عن السبب في عدم حمله لهذه الدرجة.
على الرغم من العدد الكبير من الأساتذة الكبار الذين تتلمذوا وحصلوا على درجة الدكتوراه تحت إشرافه شخصياً، منهم على سبيل المثال، البرفسور “محمد سميع الدين” أستاذ الإحصاء الرياضي في جامعة كراتشي وعضو هيئة التدريس في كلية العلوم بجامعة الملك عبد العزيز في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
إضافةً إلى البروفسورة “سيلفيا لتكنز”، أستاذة الإحصاء التطبيقي مشرفتي على الدكتوراه في جامعة ويلز، وغيرهم الكثير من الأساتذة حول العالم.
ما علينا:
بعد أن رتبت لي المشرفة زيارة البرفسور “ديفيد ليندلي” في داره، طلبت مني شخصياً عدم سؤاله عن سبب عدم حصوله على درجة الدكتوراه، وذكرت لي أن ذلك قد يجعله يخرج عن طوره وينهي المقابلة.
استقبلني البرفسور “ليندلي” بكل رحابة في داره على قمة جبل في قرية ماينهيد، وسرّ كثيراً بأني أحد طلاب تلميذته في جامعة ويلز، وتطرقنا أثناء الحديث إلى اكتشافه للإحصاء اللامعلمي الذي أحدث ضجة علمية كبيرة في تلك الفترة، وطلبت منه بعض النصائح. للأمانة، كنت مبهوراً من شخصية هذا العالم الكبير لدرجة أني كنت أتلعثم عندما أتحدث، والطامة الكبرى حدثت – لقافةً مني – عندما سألته عن سبب عدم حمله لدرجة الدكتوراه، رغم تحذير المشرفة لي مراراً حول ذلك السؤال.
وبمجرد انتهائي من إلقاء السؤال، وإذا بي أمام شخصية مختلفة تماماً، قال لي: “سيد بكري، انتهى اللقاء، مع السلامة”. تذكرت عندها تحذير المشرفة لي بعدم سؤاله عن عدم حمله للدكتوراه، خرجت من داره وأنا أفكر فيما عملته، وكيف سوف أواجه المشرفة.
هاتف البرفسور ليندلي مشرفتي شاكياً ما بدر مني، وعند ذهابي لمكتبي في الجامعة بعد عودتي من الزيارة، وجدت المشرفة في انتظاري أمام المكتب وهي في قمة الغضب، وأعطتني درساً لن أنساه ما حييت.


