الشارع هو الفضاء الواسع الذي يقبل عليه الطفل لقضاء أوقات من المتعة مع الأقران والأصحاب. ومعروف أن الشارع يمثل مدرسة كبرى لا يستطيع أحد، مهما أوتي من قوة، أن يتحكم فيها أو يضع ضوابط لها؛ فهي مكان تلاقح مختلف التجارب والمواقف وأشكال التربية. لذلك يمكن أن تكون بيئة صالحة يستفيد منها الطفل، أو مكانًا يعود عليه بالضرر؛ لأن الطفل قد يتعلم فيه الكثير من الأمور الإيجابية أو السلبية.
شخصيًا، مررت بهذه التجربة وكانت تجربة إيجابية في كثير من جوانبها، ولله الحمد والمنة، على الرغم من بعض قساوتها. كان الترابط على مستوى الحي والشارع قويًا جدًا، ففي الأفراح والمآتم يقف أهل الحي وقفة صدق مع صاحب المناسبة، وأكثر من ذلك أن الجميع كان يشعر بمسؤوليته عن الجميع! فحين يقف الجار على سلوك خاطئ لابن جاره فإنه يباشر تعليمه وتأديبه وكأنه ولده، ولا يتردد في ذلك، والابن نفسه يعلم أن كل “كبير” في الحي هو بمثابة والده.
ومن أساتذتي في الشارع، والذين كان لهم الفضل بعد والدي -رحمه الله- ووالدتي الحبيبة أطال الله في عمرها في تربيتي، أذكر منهم:
• المعلم عبد القادر عابد، مقاول بناء، كان صديقًا مقربًا للوالد -رحمهما الله جميعًا-، وكان لي بمثابة الأب الحريص والحنون. لا تزال صورته في الذاكرة وأنا في طريقي إلى المدرسة الناصرية الابتدائية عندما كان يكيل لي المدح قائلًا: “خليك رجال”. وفي الذاكرة أيضًا، كان الوالد -رحمه الله-، كما أغلب الآباء في تلك الحقبة الزمنية، لا يسمح لأبنائه بالبقاء خارج المنزل بعد صلاة العشاء. وفي إحدى المرات كنت واقفًا أمام منزلنا، وإذا بالعم عبد القادر في طريقه لمنزله بعد أدائه صلاة العشاء في الحرم المكي الشريف يقف أمامي ويطلب مني بحزم أن أذهب إلى المنزل وألا أكرر ذلك مرة أخرى، وإلا فله أسلوب آخر في التعامل.
• العم جمال برنجي -رحمه الله-، كان صديقًا للوالد -رحمه الله-، كبيرًا في السن، وله محل صغير لبيع المواد الغذائية بجانب مقهى الوالد في شارع إبراهيم الخليل. كان على درجة عالية من الثقافة، يحب الشعر والأدب، وكان جل أصدقائه من المثقفين، يجتمعون في حلقة أمام دكانه في الفترة بين صلاتي المغرب والعشاء. كنت أستمتع بالاستماع إليهم وهم يتناولون مواضيع ثقافية وأدبية. ولا أبالغ إذا قلت إن مجلس العم جمال كان السبب الأول في حبي للقراءة والكتابة.
• الأستاذ يوسف بكر سادة -رحمه الله-، أستاذ متمكن في اللغة العربية على الرغم من كونه كفيفًا، وكان يقوم بتدريس اللغة العربية في مدارس البنات. كان يحب الأدب والثقافة، ولديه اشتراك أسبوعي في مجلة العربي الكويتية الشهيرة في فترة التسعينات الهجرية، وكانت تصله الأعداد بانتظام. كنت مع مجموعة من الأصدقاء، ونحن في بداية المرحلة الثانوية، نجتمع أمام داره في دحلة الرشد بالمسفلة أثناء العطلة المدرسية، وكان يقوم بإعارتنا المجلة بالتناوب لقراءتها وتقديم ملخص عنها.
هذه مجموعة ممن تتلمذت على أيديهم -رحمهم الله جميعًا-، وكان لهم الفضل بعد الله في تعليمنا وتثقيفنا خارج المنزل.


