المقالات

يا أبطال الهياط فكونا من هياطكم

في السنوات الأخيرة، تفشّت وبكل أسف ظاهرة الهياط – أي المبالغة في القول والفعل واستعراض ما لا يملك صاحبه – حتى باتت سمة لبعض الأفراد في مجالسهم ومجتمعاتهم وفضاءات التواصل الاجتماعي. هؤلاء الذين اعتادوا تضخيم ذواتهم والتفاخر بما ليس لهم، صاروا مصدر إزعاج وإرهاق للآخرين، فلا نصيحة تنفع معهم ولا توجيه يؤثر فيهم، وكأنهم يتعمدون العناد والمكابرة. والحق أن المبالغة المستمرة في الهياط ليست مجرد سلوك اجتماعي عابر، بل هي انعكاس لاضطراب في الشخصية قد يحتاج إلى دراسة وتدخل.
حيث تشير الدراسات النفسية إلى أن الهياط يرتبط غالباً بانخفاض تقدير الذات، حيث يحاول الشخص تعويض شعوره بالنقص عبر المبالغة في إنجازاته أو قدراته. فوفقاً لتقرير الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) عام 2022، فإن الأشخاص الذين يمارسون التفاخر المرضي يميلون إلى العزلة الاجتماعية على المدى البعيد، لأن محيطهم يملّ من خطابهم ويبتعد عنهم. أما على مستوى المجتمع، فقد أظهرت دراسة لجامعة هارفارد (2021) أن المبالغة في الاستعراض تؤدي إلى فقدان الثقة، إذ يرى 73% من المشاركين أن الشخص “المهوّط” غير جدير بالاعتماد عليه. كما أن منصات التواصل الاجتماعي عززت هذه الظاهرة بشكل مقلق ومزعج فعلا ، حيث يشارك الأفراد تفاصيل مبالغ فيها عن حياتهم، ما يخلق صورة زائفة عن النجاح أو الثراء. ففي تقرير صدر عن منصة “We Are Social” لعام 2023، تبين أن 42% من مستخدمي الإنترنت يعترفون بأنهم بالغوا في وصف إنجازاتهم أو ممتلكاتهم على الشبكات الاجتماعية.
الخطير في الأمر أن الهياط لم يعد مقتصراً على الأحاديث الفردية، بل امتد إلى مجالات أوسع مثل الاستهلاك والفعاليات الاجتماعية وحتى النقاشات الثقافية. حيث نرى من يبالغ في تنظيم حفل باذخ أو التباهي بمشروع لم ينجزه، فقط ليُظهر نفسه بصورة “البطل” أمام الآخرين. ولعل السؤال الجوهري هنا: ماذا يستفيد هؤلاء من هذا السلوك؟ الإجابة الأقرب أن المستفيد الوحيد هو “الأنا الزائفة”، أما الخسارة فهي جماعية:
خسارة الثقة: يفقد المهوّطون احترام الآخرين سريعاً.

خسارة العلاقات: تنفر منهم المجالس والأصدقاء بسبب تكرار الكذب والمبالغات.

خسارة الفرص: إذ يندر أن يُؤتمن شخص على مسؤولية حقيقية وهو معروف بالتهويل.

بل إن علماء الاجتماع يرون أن تفشي “ثقافة الهياط” يضر بالصورة العامة للمجتمع، إذ يرسخ الانطباع بأن المظاهر أهم من الجوهر. وقد أشار تقرير “مجلس التنمية الاجتماعية للأمم المتحدة” (2020) إلى أن المجتمعات التي تسودها ثقافة المبالغة تفقد جزءاً من جديتها وتضعف فيها روح المسؤولية.
إن هؤلاء الذين أدمنوا الهياط يحتاجون إلى وقفة صادقة مع ذواتهم، وإلى من يعكس لهم حقيقتهم بلا مجاملة. لكن المشكلة أن أغلبهم لا يسمع النصيحة ولا يقبل التوجيه، وكأنهم يعيشون في عالم موازٍ من الوهم والغرور. وهنا لا يسعنا إلا أن نقول: اللهم لا شماتة، فقد صاروا مرضى لا علاج لهم إلا بالدعاء بالهداية.
ختاماً، إذا أردنا أن نرتقي بمجالسنا وفضاءاتنا العامة، فعلينا أن نُعرض عن “أبطال الهياط” وأن نمنح مساحاتنا لمن يضيف فائدة حقيقية. فالكلمة الصادقة والعمل المخلص أبقى وأجمل من كل استعراض أجوف. فكونا من هياطكم، فالحياة قصيرة وأثمن من أن نضيعها في أوهام لا تغني ولا تسمن من جوع. نسأل الله السلامة والعافية.

• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

د. تركي بن فهد العيار

أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى