المقالات

المؤرخ والمحقق والفيلسوف: قراءة عبر حوادث التاريخ

«مرافئ الرأي»

كثيرًا ما يُشبه المؤرخ بالمحقق البوليسي ، فكلاهما يتتبع الخيوط ويلاحق القرائن ويفتش في الأوراق ويستنطق الشهود والأدلة في رحلة البحث عن الحقيقة. غير أن المؤرخ لا يقف عند مسرح الجريمة الحاضرة، بل يغوص في طبقات الزمن، يقرأ النقوش الغامضة والآثار الصامتة ليعيد بناء قصة مضت. كاشفًا دوافعها ونتائجها ومكانها في سياق التاريخ الإنساني، أما الفيلسوف، فإنه لا يكتفي بالتحقيق ولا بالسرد، بل يتوقف متسائلاً عن معنى الحدث وما يكشفه عن طبيعة الإنسان والوجود.

وفي مسرح التاريخ ، تتوالى الحوادث لتبرهن أن المؤرخ والمحقق والفيلسوف ليسوا إلا وجوهاً متعددة لرحلة واحدة نحو الحقيقة .وفي هذا السياق تُظهر حوادث التاريخ التداخل بين الأدوار؛ فعلى سبيل المثال نجد في التاريخ الروماني حادثة اغتيال يوليوس قيصر سنة 44 قبل الميلاد يمثل مشهدًا يجتمع فيه المؤرخ والمحقق والفيلسوف. فالمؤرخ ينقل تفاصيل المؤامرة التي حاكها مجلس الشيوخ، والمحقق يفتش في خيانة الأصدقاء المقربين، بينما يتأمل الفيلسوف في مغزى النهاية: هل كان مقتل قيصر خلاصًا من طاغية أم بداية لفوضى غيّرت وجه الإمبراطورية الرومانية؟

وكذلك ما جرى بعد قرنين من الزمن بين الامبراطورين الأخوين كاراكلا وجيتا لوحة أخرى. فالمؤرخ يسجل أن كاراكلا قتل شقيقه ليحكم منفردًا، بينما المحقق يتقصى اتهامات تواطؤ الأم الامبراطورة جوليا دومنا مع ابنها ضد أخيه، أما الفيلسوف فيقف عند المأساة الإنسانية: أمّ ترى ولديها يتصارعان حتى الموت، فهل كانت شريكة في الجريمة أم أسيرة قدر لا ترحم قسوته؟

ومن جانب آخر يعكس بدوره تاريخ الفراعنة وفي مصر القديمة هذا التداخل بين الأدوار. فموت إخناتون، فرعون التوحيد، ترك أسئلة معلقة: المؤرخ يبحث في ظروف رحيله الغامضة، والمحقق يتتبع صراع الكهنة مع إصلاحاته الدينية، فيما يتأمل الفيلسوف في معنى فكرة دينية تهزّ إمبراطورية ثم تنطفئ بموت صاحبها.

أما الفرعون توت عنخ آمون، الذي رحل في سن مبكرة، فيعيد القصة من جديد: المؤرخ يستند إلى فحوص المومياء فيرجح إصابته بالملاريا أو كسرًا في الجمجمة، والمحقق لا يستبعد فرضية الاغتيال في بلاط مترع بالصراع، بينما يتساءل الفيلسوف: ما جدوى الملك والعرش إذا كان الموت المبكر يطيح بكل شيء؟

وتقف الأهرامات شامخة كأعظم أسرار مصر القديمة. المؤرخ يدرس تقنيات البناء وتنظيم العمال، والمحقق يسأل: هل كان الشعب راضيًا أم مُسخّرًا لإرادة السلطة الحاكمة ؟ أما الفيلسوف فيطرح سؤال المعنى: كيف تسخّر أمة مواردها لبناء مقبرة عظيمة، لا معبدًا ولا قصرًا ولا دار علم؟ وما الذي يكشفه هذا الصرح عن نظرة الفراعنة إلى الموت والخلود؟

كذلك الحال في التاريخ العربي قبل الإسلام بما يكتنزه من ثغرات وفجوات ، فإنه يثير فضول المؤرخ ويحفز عزيمته ،ويشحذ قلمه وفكره ، باحثًا ومنقباً حتى يردم الهوة ويستضيء بما وراء العتمة .

ولعل من أبرز ما يكشف عن تلك الثغرات ويستفز المؤرخ للبحث والتقصي هو تاريخ الجزيرة العربية، إذ تقف مملكة لحيان في دادان (العلا) مثالًا شاخصًا على الغموض والاختلاف بين الباحثين حول نشأتها و زوالها: بعضهم نسب قيامها إلى القرن الخامس قبل الميلاد على أنقاض دادان، وآخرون ربطوا سقوطها بغزو الأنباط أو الرومان، بينما رأى فريق ثالث أن الزلازل والجفاف وتحول طرق التجارة كانت وراء أفولها.

و لم تكن لحيان سوى حلقة واحدة في سلسلة طويلة من الممالك العربية التي ظل تاريخها مثيرًا للبحث والتنقيب، يتطلب من المؤرخ أن يتعقب النقوش والآثار ليملأ فراغاته ،ويزداد المشهد وضوحًا حين نطلّ على نقش معبد روافة (162–169م)ذلك الشاهد الذي كتبه الثموديون في شمال غرب المملكة، بالخط النبطي واليوناني، يخلّد انتصارات الإمبراطورين ماركوس أورليوس ولوكيوس فيروس. المؤرخ يقرأ النصوص كدليل على النفوذ الروماني، والمحقق يتتبع التحالفات التي نسجها الثموديون، فيما يتساءل الفيلسوف: هل كان ذلك خضوعًا لسلطة الغالب أم اندماجًا في عالم أوسع من حدود الصحراء؟

لعل ثورة دمسى التي ورد خبرها في نقش نبطي من القرن الأول للميلاد مثالٌ حيّ على هذا التداخل بين أدوار المؤرخ والمحقق والفيلسوف. فقد جاء في النقش أن دمسى بن هوتب تمرّد على أبيه، وأثار اضطرابًا عظيمًا بين قومه. هنا يظهر المؤرخ في صورة المحقق الذي يفكّ رموز النقش ليستخلص منه حقيقة الحدث، ثم يتقمص دور الفيلسوف وهو يتساءل: أهي ثورة تحرر ضد سلطة أبوية ظالمة؟ أم نزاع أسري تضخم حتى غدا حدثًا تاريخيًا؟ وما أثر مثل هذه الحوادث في مسار الزمن؟

هكذا تتوزع الأدوار: المؤرخ يحفر في الأرض ليستخرج الدليل، والمحقق يعيد تركيب الوقائع من شظايا متفرقة، والفيلسوف يمنحها بعدًا يتجاوز الحدث إلى المعنى. والحقيقة التاريخية لا تأتي كاملة أبدًا، بل تبقى فضاءً مفتوحًا للتأويل، يكتب فيه المؤرخين والمحققين والفلاسفة فصولًا متجددة من قصة الإنسان مع الزمن.

ولعل أجمل ما في الأمر أن هذه الأدوار، على تباينها، تجتمع كلها في المؤرخ؛ فهو المحقق الذي يلاحق القرائن، والفيلسوف الذي يسائل المعنى، وهو قبل ذلك وبعده صاحب القلم الذي يدوّن ما يبقى.

أ.د فتحية بنت حسين عقاب

جامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. يقول د. بدرية محمد حبيب وكيلة التنمية المستدامة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل:

    أحسنت يجمع المؤرخ ويتمتع بالمهن الثلاث مؤرخ وفيلسوف ويحقق ومهنة أخرى متنبئ
    وحكواتي متمكن وحكيم لابد من الرجوع له في كثير من الأمور بارك الله فيك وكتب أجرك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى