المقالات

الطائف يطلق رسالته إلى العالم: مؤتمرٌ يؤصّل لسياحةٍ علاجيةٍ سعوديةٍ واعدة

في السابع والثامن من سبتمبر 2025، تحوّل فندق إنتركونتيننتال الطائف إلى منصةٍ عالميةٍ للحوار حول السياحة العلاجية، مع انطلاق المؤتمر العالمي الأول للسياحة العلاجية تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نهار بن سعود بن عبدالعزيز محافظ الطائف، وبحضورٍ واسع من الخبراء والمسؤولين والإعلام والجمهور من داخل المملكة وخارجها. سعدت وتشرفت بالمشاركة فيه بورقة عمل بعنوان “دور الإعلام في إبراز الأهمية الاستراتيجية للسياحة العلاجية” شكّل الحدث خطوةً نوعيةً تُترجم طموحات رؤية المملكة المستقبلية الطموحة 2030 في ربط الصحة بالسياحة والاقتصاد الإبداعي، وأثبت أنّ الطائف—بمناخها المعتدل ومواردها الطبيعية وتاريخها العريق—جديرةٌ بأن تكون وجهةً صحيةً وسياحيةً في آنٍ واحد.

قيادةٌ تصنع الفارق
نجاح المؤتمر لم يكن مصادفة؛ فقد وقف خلفه جهدٌ مؤسسيّ محترف قاده الأستاذ الدكتور طلال المالكي الرئيس التنفيذي لتجمع الطائف الصحي، والمستشار الأستاذ سلطان السعدون رئيس مجلس إدارة جمعية السياحة العلاجية. وقد ظهر أثر هذا العمل بوضوح في التنظيم المحكم، والمعرض المصاحب الذي عكس ثراء التجربة السعودية وتكامل منظومتها الصحية والسياحية. وتجدر الإشارة إلى أن أ.د. المالكي يقود جهوداً ميدانيةً معروفة في تنسيق خدمات التجمع الصحي بالطائف، وهو ما عزّز ثقة الشركاء والعارضين والمشاركين بالمؤتمر.
و المؤتمر يشكل بالفعل أهمية بالغة في الوقت الراهن ، وذلك للأسباب التالية:
1. لأن السياحة والصحة باتتا رافعتين اقتصاديتين متضافرتين في المملكة. وفقاً لأحدث تقديرات المجلس العالمي للسفر والسياحة WTTC، حيث يتجه القطاع في السعودية ليتجاوز 10% من الناتج المحلي في 2025، مع مساهمةٍ قياسية تقدَّر بنحو 447.2 مليار ريال وفرص عملٍ تبلغ 2.7 مليون وظيفة. فهذه الأرضية الاقتصادية تمنح بطبيعة الحال سياحة العلاج منصةً للنمو داخل منظومةٍ سياحيةٍ شاملة.
2. لأن الطلب على العلاج والسفر الصحي يتصاعد عالمياً، والسعودية تسجّل نمواً مطّرداً في السياحة العلاجية والرفاه الصحي. فتقرير المعهد العالمي للرفاه GWI يُظهر ارتفاع رحلات الرفاه (الأساسية والثانوية) وإنفاقها في المملكة بين 2019 و2022، بما يعكس توجهاً حقيقياً للدمج بين الصحة والسياحة داخلياً واستقطابياً.
3. لأن السياسات الممكنة تهيّئ الطريق: توسّع التأشيرة السياحية الإلكترونية لتصل إلى 66 دولة في 2024 مثلاً سهّل دخول الزوار، فيما سجّل إنفاق السياح القادمين إلى المملكة في 2024 نحو 168.5 مليار ريال (+19% عن 2023)، وهذا يفتح نافذةً كبيرة لاستهداف شرائح علاجيّة محدّدة.

صحةٌ تتحوّل… ونموذج رعايةٍ يواكب
أطلقت المملكة ضمن برنامج تحول قطاع الصحة نموذج رعايةٍ جديداً، وفصلت أدوار التمويل والتقديم والتنظيم، وأنشأت التجمعات الصحية لرفع الكفاءة وجودة المخرجات. فهذا التحوّل—الموثّق في تقارير رسمية ودراسات أكاديمية—يوفّر أساساً متيناً لبناء خدماتٍ علاجيةٍ جاذبةٍ دولياً، قائمةٍ على الجودة، وسلامة المرضى، واستدامة التمويل. كما أنّ التوسع في الاعتمادات الدولية (مثل اعتماد JCI وGHA) يرسّخ موثوقية منشآتنا لدى المرضى الدوليين ويُسهل عقد الاتفاقيات مع شركات التأمين والوسطاء العالميين. ويمكن الرجوع إلى قواعد بيانات الاعتماد للتحقق من اتساع قاعدة المستشفيات والبرامج المعتمدة في المملكة.

مميزات مؤتمر الطائف؟
تنوع المشاركات الدولية وتوقيع تفاهماتٍ وشراكات لتطوير القطاع، ما يضع الطائف على خريطة الفعاليات العلاجية ويخلق جسور تعاون مع أسواقٍ مُصدِّرة للمرضى. كذلك التكامل بين جلساتٍ علميةٍ ومعرضٍ مصاحب يعرض حلولاً وتقنياتٍ وتجاربَ عملية، في بيئةٍ تنظيميةٍ راقية.
بجانب اصطفاف محلي قوي بين جمعيةٍ متخصصة وتجمعٍ صحي، تحت رعاية الإمارة، وهو نموذج شراكةٍ مؤسسية يجب تعميمه.

السعودية كسوقٍ علاجيٍّ صاعد: مؤشرات وفرص
اظهرت تقارير سوقية حديثة تُقدّر قيمة سوق السياحة العلاجية في السعودية بنحو 0.20 مليار دولار في 2024 مع توقع بلوغ 0.68 مليار دولار في 2030 بمعدل نمو سنوي يقارب 22–23%—وهي وتيرة نمو لافتة قياساً بالأسواق الإقليمية، مدفوعةً بالتخصصات الدقيقة، والرفاه الصحي، وبيئة السفر الميسّرة. هذه المؤشرات تؤكد أن الاستثمار المنظم في هذا المضمار قادرٌ على خلق قيمةٍ اقتصاديةٍ وفرص عملٍ نوعية.

وفي هذا السياق ، اقدم توصياتٌ عملية لتعظيم الأثر بعد مؤتمر الطائف الدولي للسياحة العلاجية على النحو التالي:

1. إعداد حزمة هوية وطنية موحَّدة لسياحة العلاج (Saudi MedCare) تربط المستشفيات المعتمدة ومراكز التأهيل والرفاه بمنصّةٍ رقمية واحدة متعدّدة اللغات لطلب العروض والحجوزات وتتبع رحلة المريض. تُدار هذه المنصة بشراكةٍ بين وزارة الصحة والسياحة وهيئة السياحة الصحية المقترحة.
2. عمل اتفاقيات تأمينٍ صحي دولي (TPA & Insurers) مع أسواقٍ مستهدفة في الخليج وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا، مع نشر جداول أسعارٍ شفافة وحزم علاجٍ شاملة (العلاج + الإقامة + الترجمة + النقل) تُسعَّر مسبقاً وتعرض مؤشرات الجودة والنتائج السريرية.
3. توسيع الاعتمادات الدولية: هدفٌ مرحلي لزيادة عدد البرامج والمنشآت المعتمَدة من JCI وGHA سنوياً، وربط الإعانات والحوافز بتحقيق معايير السلامة والجودة وخبرة المريض.
4. إنشاء مكاتب استقبال مرضى دوليين (International Patient Desks) داخل التجمعات الصحية الكبرى، مع مساراتٍ سريعةٍ للفحوصات والتدخلات الاختيارية، وخدمات الترجمة، ومرافقةٍ لوجستيةٍ متكاملة في المطارات والفنادق.
5. تنظيم حملات تسويقٌية ذكية للطائف كوجهةٍ علاجيةٍ مناخية ، تتضمن الاستفادة من مناخ الطائف وطبيعتها وارتفاعها لتعزيز برامج طبّ التأهيل وأمراض الجهاز التنفسي واللياقة القلبية، إلى جانب حزم التعافي والرفاه بعد العمليات، وربط ذلك برزنامة الفعاليات السياحية.
6. إعداد بيانات وقياس أثر ، تشتمل على لوحة مؤشراتٍ عامة تُحدّث ربع سنوياً (عدد المرضى الدوليين، متوسط الإنفاق، التخصصات المطلوبة، الرضا، زمن الانتظار)، وربطها بأهداف WTTC في مساهمة القطاع السياحي بالناتج ووظائفه؛ لقياس العائد الاقتصادي بدقة.
7. تيسير الوصول: استمرار توسيع التأشيرة الإلكترونية، ومساراتٍ خاصة لزوار العلاج بالتنسيق مع الناقلات الوطنية، وتسهيل إدخال مرافقٍ واحد للمريض—مع إعفاءاتٍ أو أولويةٍ في المنافذ.
8. إطلاق برنامج صناديق التحفيز ، يشتمل على تمويلٌ تنافسي للمستشفيات التي تطلق خدماتٍ علاجيةً تخصصيةً ذات طلبٍ إقليمي (القلب، الأورام، زراعة الأعضاء، العقم، العظام والعمود الفقري)، مع اشتراط نشر نتائجٍ سريريةٍ معيارية وتبنّي تجربة المريض الرقمية.
9. عمل شراكاتٌ أكاديمية وبحثية ، تتضمن تشجيع الدراسات السريرية والسياحية المشتركة (جامعات + مستشفيات + قطاع السياحة) لإنتاج أدلةٍ قابلةٍ للتحكيم تُغذي حملات التسويق بالمصداقية العلمية.
في الختام ، اقول بأن مؤتمر الطائف العالمي الأول للسياحة العلاجية غرس بذرة مشروعٍ وطنيٍّ كبير، جمع بين رؤيةٍ سياسيةٍ داعمة، وقيادةٍ تنفيذيةٍ فاعلة، وزخمٍ إعلاميٍّ وجماهيري، وسوقٍ واعدة تشهد نمواً سياحياً واقتصادياً غير مسبوق. وإذا ما تمّ تحويل مخرجاته إلى برامجٍ عملية—في التنظيم والاعتماد والتسويق والشراكات—فإن المملكة بإذن الله مرشّحة لتكون وجهةً علاجيةً إقليميةً مرموقة خلال سنواتٍ قليلة، على قاعدة جودةٍ عالية وتجربة مريضٍ إنسانيةٍ وشفافة. والطائف، بما قدّمته، تستحق أن تبقى على موعدٍ سنوي مع هذا الحدث لتقود الحوار وتُتقن البناء على النجاح.

• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

د. تركي بن فهد العيار

أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى