العالم الفيزيائي الألماني مكتشف نظرية الكم “ماكس بلانك”، رغم أنه استنكر كل ما فعلته بلاده ألمانيا النازية، فإنه اختار أن يبقى هو وعائلته في وطنه، بينما هرب الآخرون مع أول فرصة.
بقي ماكس بلانك في بلده على أمل أن يجمع قطع الدولة المكسورة ليعيد بناءها من جديد بعد أن تهدّمت بالكامل. وقد ساعده زملاؤه العلماء الألمان، وطالب الدولة بالتوقف عن مطاردة العلماء اليهود، وبسبب ذلك نُحِّي عن وظيفته غير مرة.
فلا عجب إذًا أن يقول ماكس بلانك، الذي مرّ بكل تلك الأحداث وامتلك كل تلك القوة والقدرة العجيبة، مقولته الشهيرة التي نقتبس منها:
“استغلّوا الفرص ما دامت قائمة، فسلامة الروح في أداء الواجب.”
كاتب هذه المقولة هو ماكس بلانك الذي تنطبق عليه مقولة عالم الاجتماع والفلسفة التونسي عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة:
“من الظروف الصعبة يخرج الرجال الأقوياء.”
لقد عاش هذا الرجل عددًا من المآسي؛ إذ ماتت زوجته الأولى سنة 1909م، وتُوفي جميع أبنائه في ظروف مأساوية.
فخلال حياته، مات ابنه كارل الأكبر متأثرًا بجراحه في الحرب العالمية الأولى، وأُعدم ابنه إروين سنة 1944م على يد النظام النازي بعد اتهامه – مع آخرين – بمحاولة اغتيال الزعيم النازي هتلر. أما التوأم إيما وجريت فماتتا عند مولدهما، في حين عانى ابنه هيرمان من زوجته الثانية ميرجا من مشكلات عقلية.
نحن إذًا أمام رجلٍ عاش كابوسين في حياته: الحربين العالميتين الأولى والثانية، والنظام النازي، وفقد عائلته بالكامل في ظروفٍ مأساوية وغير طبيعية.
ومن المواقف التي تدعو للتأمل، أنه حين تقدم الشاب ماكس بلانك سنة 1864م لدراسة الفيزياء في جامعة ميونيخ، نصحه أحد أساتذته، ويدعى فيليب فولي، قائلًا:
“إن هذا المجال قد تم اكتشاف كل شيء فيه تقريبًا، وما تبقى إلا القليل من الثغرات.”
كان الاعتقاد السائد حينها أن الفيزياء بلغت ذروة مجدها بعد معادلة نيوتن الثانية للحركة (F = ma)، وأن ما تبقى مجرد تفاصيل تطبيقية. لكن ماكس بلانك ردّ على أستاذه قائلًا إنه لا ينوي اكتشاف أشياء جديدة، بل يسعى إلى التعمق في فهم أساسيات الفيزياء.
واصل ماكس بلانك طريقه ولم يُصغِ إلى نصيحة أستاذه، فدرس الفيزياء التي أحبها، إلى أن أسّس علمًا جديدًا عُرف باسم “نظرية الكم”، التي قلبت الطاولة على الفيزياء الكلاسيكية، وفتحت مجالًا بحثيًا جديدًا تمامًا في تاريخ العلم، محدثةً ثورة علمية غيّرت مفاهيم الكون والطبيعة.
لقد خرَق ماكس بلانك ما كان يُعدّ “كتب الفيزياء المقدسة”، خصوصًا أعمال العالم إسحاق نيوتن، مثل كتابه الشهير “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” الذي وضع فيه قوانين الحركة والجاذبية.
لقد أعاد ماكس بلانك علم الفيزياء – بشكلٍ ما – إلى “وضع المصنع”، بعدما كان الجميع يقول: إننا قد انتهينا بالفعل.



